
في كلّ يوم اثنين وخميس، يردّدُ خدمة العتبة العباسية المقدسة نشيدًا يسبقه زيارة مولانا أبي الفضل العباس عليه السلام، أصبح جزءًا من التراث الثقافي للعتبة المقدسة، إذ يتردّد صدى "لحن الإباء" في أرجاء العتبة العباسية المقدسة، وسط حضور من زائرين يصطفون قريبًا للاستماع والتمعن بالكلمات والأداء.
وهو ليس مجرد نشيد ديني، بل هو تعبير عميق عن معاني التضحية والفداء ويعكس روح الشجاعة التي جسدها أبو الفضل العباس عليه السلام في معركة كربلاء.
ووراء هذا النشيد المهيب، تكمنُ قصةُ شاعر نشأ بين أزقة كربلاء، كان لكلماته أثر واضح في تكريم ذكرى أبي الفضل العباس عليه السلام.
علي الصفار، الشاعر الكربلائي الذي أسّس لنفسه مكانة بين الشعراء، لم يكن يومًا بعيدًا عن قصائد العزاء والملاحم الحسينية التي كانت تملأ سماء المدينة.
منذ طفولته، اعتادت أذنه على سماع الكلمات التي تروي معركة كربلاء، وترسم في ذاكرته مشاهد الإباء والشجاعة، تربّى في بيت حسيني، وسط أجواء تغذّيها ذكرى عاشوراء، فكانت القصائد الحسينية تشكل جزءًا أساسيًا من حياته اليومية.
ومع نموه، بدأت التحديات تظهر، خصوصًا عندما عاش تحت ظلّ النظام البعثي في صباه، فالحياة في ظل هذا النظام الذي عايشه لم تكن سهلة.
كانت القوافي في تلك الأيام تحمل في طياتها مخاطر الاعتقال والملاحقة، وعلى الرغم من ذلك، لم يتوقف عن الكتابة، بل كان يكتب قصائده في الخفاء، كأنّها رسائل للشعب المكروب في تلك الفترة العصيبة.
وبعد الخلاص من جور الحكم البائد، انفتح أمامه العالم ليكتب بحرية عما يختلج في قلبه من معاني الوفاء والتضحية.
وفي 4 شعبان 1427 هـ وفي أثناء حفل إعادة تأهيل وافتتاح مكتبة أبي الفضل العباس "عليه السلام" ضمن فعاليات مهرجان ربيع الشهادة الثقافي العالمي الثاني تولّى الصفار عرافة الحفل.
وبينما كان يهيّئ الحضور لفقرات المهرجان المتعددة، كان يلقي بين الفقرة والتي تليها أبياتًا من قصيدة كتَبها بحقّ أبي الفضل العباس عليه السلام، تجسّد معاني الفداء والولاء.
وقف الصفار وقال أبياته الأولى:
"أبا الفضل يا فارسًا لا يلين
تذلّ المنايا ولا تستكين
فأنت الحسام وأنت اللواء
وأنت الثبات وأنت الإباء
وقد كنت جيش الفدا للحسين
وقد كنت جيش الفدا للحسين"
كانت الكلمات تنبع من قلبه كأصداء تتردد بين جدران المدينة التي شهدت المأساة، كلمات ملأتها القوة، وحملت في طياتها الإيمان العميق بمعركة كربلاء، وتضحيات أصحاب الحسين عليه السلام.
بدأ الحضور يتفاعل مع كلّ كلمة، وكلّ لحن، حتّى بدا أنّ أصداء القصيدة ستظل تدوي في الأفق لوقت طويل.
هذه الأبيات كانت البداية، حيث شعر الحضور بجاذبية نادرة في الكلمات، وكان يبدو أنّ القصيدة ستتخطى حدود المهرجان.
في اليوم التالي للمهرجان، وصلت إلى سماحة السيد أحمد الصافي "دام عزه" - عضو اللجنة الثلاثية لإدارة العتبات المقدسة في كربلاء آنذاك، والأمين العام للعتبة العباسية المقدسة لاحقًا، ومتولّيها الشرعي حاليًّا - أبيات قصيدة "لحن الإباء" التي ألقاها الشاعر علي الصفار.
استدعى السيد الصافي الصفار وأبلغه اعتماد هذه القصيدة نشيدًا للعتبة العباسية المقدسة، وإلغاء المسابقة التّي كان من المقرر الإعلان عنها بهدف اختيار نشيد خاصة بالعتبة.
"شرف كبير لي أنْ تُنشد كلماتي في ضريح أبي الفضل العباس" هكذا وصف الصفار شعوره بعد أن تم اختيار نشيده ليكون جزءًا من التراث الثقافي للعتبة العباسية المقدسة، مشيرًا إلى أنّ كلمات "لحن الإباء" كانت ثمرة بيئة ثقافية ودينية غنيّة جدًا، متأثرة بكل ما كانت عليه المدينة التي نشأ فيها.
وكان هذا بعد مرور عام من اختيار قصيدته "نداء العقيدة" نشيداً للعتبة الحسينية المقدسة، ومنذ ذلك الحين، أصبح نشيد "لحن الإباء" جزءًا من هوية كربلاء، يُنشد في العتبة العباسية المقدسة كلّ أسبوع، ويُعدّ مناسبة للتذكير دائما بشجاعة وإباء أبي الفضل العباس عليه السلام، وتضحيته العظيمة في واقعة الطف.
في حديثه عن مسيرته الأدبية، يقول الصفار: "لقد كتبت العديد من الأناشيد والقصائد، منها "نداء العقيدة، وهدير الحق"، والأخير كان يُبثّ على شاشات العتبات في أيام عصيبة مرت بالعراق. وكانت تلك الأناشيد تضفي أجواء من الطمأنينة على الزائرين".
" لكن يبقى نشيدا "لحن الإباء" و"نداء العقيدة" من الأناشيد التي خُلّدت في قلوب الناس في كربلاء، وهما اللذان يصفان جوانب من واقعة الطف العظيمة بعمق".
وعلى الرغم من أنّ فنّ الأناشيد الدينية كثيرًا ما يُستخدم في العراق، إلّا أنّ الشاعر علي الصفار قد برع في الاستفادة من هذا النوع الفني الجميل والمؤثر.
وبفضل مهاراته الأدبية وصوته الصادق، تمكّن من نقل روح الفداء والشجاعة المرتبطة بواقعة الطف، مما جعل أناشيده تُردد في العتبتين المقدستين الحسينية والعباسية، وتُخلّد في قلوب الناس.