
في ركن هادئ من مكتبته الشخصية، جلس صباح ثامر محمد، طالب الدكتوراه، متصفحًا موقع البوابة العراقية للمعرفة.
بفضول لا ينتهي وشغف بالمعرفة، كان صباح يقضي ساعات طويلة في استكشاف كنوز البوابة، بحثًا عن مواد تفيده في كتابة أطروحته عن تاريخ السكان في أهوار جنوب العراق.
وبين صفحات الكتب الإلكترونية والمخطوطات القديمة، وجد صباح نفسه غارقًا في بحر من المعلومات، مما جعله يدرك عن قرب حجم الإرث الثقافي الذي يملكه العراق.
يقول صباح: "إنّ البحث في البوابة العراقية للمعرفة كان تجربةً فريدةً من نوعها، فقد تمكّنت من الوصول إلى مصادر نادرة وقيّمة ساعدتني في كتابة أطروحتي بشكل متكامل".
مسؤولية كبيرة
أمّا هناك في بناية وسط كربلاء القديمة، نحو 105 كم إلى الجنوب الغربي من العاصمة العراقية بغداد، فيتولّى السيد حسنين أحمد الموسوي المسؤولية في إدارة أحد المراكز العلمية المهمة في العتبة العباسية المقدسة، وهو " مركز الفهرسة ونظم المعلومات التابع لقسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة " الذي انطلقت منه "البوابة العراقية للمعرفة".
يدرك الموسوي المسؤولية الكبيرة التي تقع على عاتقه، وهو يشرف على مهمة جمع التراث العراقي بأصنافه كلّها، وتحويله إلى أرشيف إلكتروني شامل.
هو يعلم أنّها مهمة ليست يسيرة، وتحفّها تحديات كثيرة، وتحتاج إلى جهد وجِدّ كبيرينِ، لكنّ الشغف يحدوه، وهو يتصفح بانتظام موقع البوابة العراقية للمعرفة، مطّلعًا على الوثائق الجديدة التي تُضاف في كل مرة، فتغني الموقع وتحفظ جزءًا من تاريخ العراق وإرثه الثقافي.
يصف الموسوي موقع "البوابة العراقية للمعرفة" بأنّه "مشروع عراقي خالص يهدف لجمع الإرث العراقي، المكتوب بالأيادي العراقية أو التراث المصور، أو الإرث الحضاري في موقع إلكتروني واحد ليكون متاحًا للجميع".
إطلاق المنصة وتعاون المؤسسات
المنصة أُطلِقَت بإشراف مركز الفهرسة ونظم المعلومات التابع لقسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة المقدسة، وبالتعاون مع جامعة الكفيل ووزارة التخطيط العراقية في 2023م.
ونالت اعتماد الاتحاد الدولي لجمعيات المكتبات ومراكز المعلومات ولجنة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، (IFLA MENA) لتصبح إحدى أبرز المشاريع التوثيقية الرائدة على مستوى العالم العربي.
وتبرز أهمية نشر هذا الخزين الثمين للناس في إغناء معلوماتهم وتوفير مادة أساسية تنفع الباحثين وطلبة الدراسات العليا والدراسات الأولية.
وفيما يخص الطريقة التي تُدار بها البوابة، فهي تُدار تقنيًّا وإلكترونيًّا عن طريق مركز الكفيل لتقنيات المعلومات، وعمليًّا من فريق متخصص يضمّ نحو خمسين شخصًا في مركز الفهرسة ونظم المعلومات.
120 ألف عنوان في تزايد
تضمّ البوابة مئات الآلاف من العنوانات مصنّفة في 17 وعاء، تشمل (الكتب، والبحوث، والأطاريح والرسائل، والصور، ومقالات المجلات، ومقالات الجرائد، والمواد المتحفية، والمخطوطات، والمرئيات، والخرائط، والمجلات، والجرائد، والطوابع، والمسكوكات، والوثائق المتنوعة، واللوحات الفنية، وقسم خاص بثقافة الأطفال) حيث تقدّم خدماتها بشكل مجاني للمستفيدين منها، باحثين ومتصفحين.
ويتم تطويرها باستمرار سواء بالتوسع الجوهري لمحتويات المنصة، أو بإضافة لمسات فنية على شكلها، تُسهّل من عملية وصول مرتاديها إلى مبتغاهم، ومن المقترحات التطويرية سعي القائمين عليها لتخصيص نافذة إلكترونية شاملة لكلّ باحثٍ وطالبِ علمٍ تجمع كامل نتاجه الفكري والثقافي.
دعم الشباب المتخصصين
يشير الموسوي إلى تنظيم دورات تخصصية في مجال الفهرسة والتصنيف للشباب العاملين في البوابة؛ بهدف رفع كفاءتهم، بما يسهّل عملهم، ويجعل من عملية الوصول إلى التفاصيل المعلوماتية أمرًا يسيرًا على المستفيدين.
ويقول "نحن نعمل بجِدٍّ لتقديم هذه الخدمات مجانًا، وتوفير المعلومات لطلبة الدراسات العليا (الماجستير والدكتوراه) والباحثين وطلبة الدراسات الأولية، عبر استمارة الكترونية تتضمّن معلومات الباحث وتخصصه، مع مراعاة حقوق الملكية الفكرية".
وفي البوابة مواد تخضع لقوانين الحقوق الفكرية، تشمل الكتب، والأطروحات، والمخطوطات، والمجلات، والجرائد، ويمكن للمهتمين تنزيل ما عداها دون قيود.
أمّا عن مصادرها فقد رفدَتها مؤسسات عراقية ومكتبات ومراكز أرشيف ومتاحف بِكمِّ هائل من المعلومات الإلكترونية، فشكّل ذلك ثروة معرفية أسهمت في تعزيز البحث العلمي والثقافي.
آراء في البوابة
يعمل الدكتور مسلم عوض، باحثًا في مركز ذي قار للدراسات التاريخية والآثارية، الكائن جنوب شرقي بغداد، بمسافة 360 كيلومترًا، وهو يصف البوابة العراقية للمعرفة بأنّها " من الأركان المهمة في دعم العملية التعليمية والأكاديمية في العراق".
ويشير إلى أنّ جامعة ذي قار قدمت للبوابة نحو 22 بحثًا ومجموعةً من الصور النادرة تخص التاريخ والآثار والخرائط، ويرى في ذلك" تعاونًا مثمرًا بين الجامعة والبوابة".
ولكونها قد أصبحت مَعْلَمًا بارزًا في مجال المعرفة الإلكترونية، فقد كانت عنوانًا لأطروحة طالب الدكتوراه، ياسر خضير، الموسومة بعنوان "البوابة العراقية للمعرفة في قسم المعلومات وتقنيات المعرفة في الجامعة المستنصرية".
والتي تضمنت جمع البيانات بتعاون كبير من مركز الفهرسة ونظم المعلومات.
ويقول خضير - بحماس - : "تحوّلت أطروحتي إلى دراسة متكاملة تظهر كيف يمكن للتكنولوجيا أنْ تكون جسرًا يربط الماضي بالحاضر، وتمثل البوابة أداةً لإحياء التراث العراقي وتعزيز البحث العلمي".
إعجاب الزائرين
من تونس الخضراء أعربت السيدة آمال محمد عن إعجابها بالبوابة" فالمواضيع الموجودة فيها تروي قصص أقوام عاشوا قبلنا، وتُرِكت آثارهم، سواء كانت بنايات أو مخطوطات أو كتب أو عملات.
وتشيد بإعجاب: "البوابة ثرية بالمواضيع المهمة التي تمكننا من الاطّلاع على تاريخ بلاد النهرين".
وتلفت، إلى أنّ ما يميز البوابة أنّها توفر لكلّ شخص ما يغنيه معلوماتيا في مجال اهتمامه، وخاصة الباحثين ممن يجهزون أطروحاتهم في الدكتوراه والماجستير.
ومن غير الباحثين، هناك عدد كبير من متصفحي البوابة من هواة الاطّلاع مثل، سجاد سعد، 37 عامًا، فهو يهوى الاطّلاع على المسكوكات القديمة ويجد متعةً في تقليب صورها.
يقول سجاد - بينما ترتسم على محياه ملامح الدهشة والإعجاب - : "لديَّ هوس بقراءة الجرائد القديمة أيضا، ودهشت لوجود جرائد قديمة في البوابة مثل ((جريدة الزوراء)) التي تعود لعام 1869".
أخيرًا ومن أبرز ما قاله السيد حسنين الموسوي على هامش لقائنا به ونحن نحاول توثيق جانب يسير من عمله الكبير" نحن لا نحفظ الماضي فقط، بل نبني مستقبلًا معرفيًا لأجيال العراق القادمة".
كلمات بالغة العمق تكشف جانبًا مما تقوم به العتبة العباسية المقدسة في مساعيها لحفظ التراث الحضاري والثقافي، لتجعله مادةً تعزز الحضور المستقبلي الناهض للأجيال القادمة.