image alt

خادم أبي الفضل.. قصة وفاء وعشق أبدى

خادم أبي الفضل.. قصة وفاء وعشق أبدى

في زقاق ضيق بمنطقة باب الخان، إذ تتداخل أصوات الباعة مع ضجيج الحياة اليومية، وُلد حسن حميد خضير عام 1987، وكان طفلًا مليئًا بالحيوية، لديه كما كلّ الأطفال في سنّه، صغيرة وأمنيات مختلفة.

 لكنّ الأيام كانت تخبئ له اختبارًا صعبًا، ففي عام 1991، تعرض لخطأ طبي فادح تسبب بشلل أطرافه السفلى، محوّلًا إياه إلى شخص مقعد بشكل دائم، لم يكن حسن ليعرف أن هذه المحنة ستكون بداية لقصة وفاء وعشق أبدي.

كانت أمّه وبطبيعة الأم الحنون، أوّل من لاحظ التغيير النفسي الذي طرأ عليه في السنوات التي أعقبت إصابته بالإعاقة، وكانت تبكي بحرقة حين تختلي بنفسها وهي ترى ابنها غير قادر على الحركة واللعب كما الصغار في عمره.

كانت تدعو الله -تعالى- كثيرًا ليساعده في محنته، وذات صباح جلست بجانبه، أمسكت بيده وقالت "يا بني، رأيت في المنام أن مولانا ابي الفضل العباس (عليه السلام) يدعوك لأن تكون من خَدَمته".

كانت الأم تأمل بأن تكون تلك الرؤيا علامة خير بحق ابنها المقعد، بينما تلقّف حسن كلماتها بأمل وكانت مثل شمعة أضاءت ظلام اليأس الذي بدأ يتسلل إلى قلبه.

 لم تكن رؤيا الأم مجرد حلم عابر، بل كانت نداءً من عالم الغيب، نداءً جعله يشعر بأنّ هناك مهمة يجب أن يؤدّيها، هكذا اعتقد حسن.


 خطوة نحو القربى


في عام 2000، قرر حسن أن يبدأ رحلته مع العتبة العباسية المقدسة منظّفا يحافظ على نظافة المكان ويحرص على قدسيته.

إنّه يعتقد أن التقرب إلى الله تعالى وأوليائه يبدأ من شعور الإنسان بقيمة ما يقوم به من عمل حتى وإن كان بسيطًا وعاديًا.

كان عملًا طوعيًا دون مقابل مادّي، نابعًا من القلب، يتنقّل حسن على عربة خاصة بأربع عجلات يدفعها بكلتا يديه بصعوبة بالغة، ومع ذلك، كان يزحف على الأرض بكل إصرار، ينظّف زوايا المكان شاعرًا بقدسيته وبأهمية عمله.

 رائحة البخور التي تملأ المكان، وأصوات الزائرين التي تتردد في أرجاء الحرم، تضفيان عليه شعورًا بالراحة يكسر الوحشة التي سببها العوق في داخله.

 يقول حسن: "كنت أشعر بأنّ كل حركة أقوم بها هي خطوة تقربني من الله -تعالى- ومن سيدي أبي الفضل العباس -عليه السلام-".


بين الخوف والأمل


لم تكن الأوضاع قبل 2003 كما هي عليه اليوم، فالسلطات البعثية كانت تضطهد كلّ من يُظهر الخدمة في العتبتين المقدستين الحسينية والعباسية، ولم يكن في العتبتين المقدستين اياً من الأقسام والشعب والمراكز والمؤسسات الموجودة حالياً، بل كان كلاً منهما مجرد مسجد كبير يتصيد فيه ازلام النظام خطى المتدينين، ليظفر بهم باعتقال هنا، وتهمة هناك.

كان حسن يسمع عن اعتقالات وعقوبات قاسية تطال محبي آل البيت -عليهم السلام- حين الزيارة او الخدمة الطوعية، ولكنّه لم يتراجع.

ما زالت رؤيا والدته عن أبي الفضل العباس -عليه السلام- ماثلة أمامه وتدفعه إلى الأمام، وكان يقول لنفسه: "إذا كان أبو الفضل يدعوني، فمن أنا حتى أرفض؟!".

وفي إحدى الليالي المليئة بالخوف، بينما كان حسن يعمل بمفرده في تنظيف محيط العتبة العباسية المقدسة بعد تراجع أعداد الزائرين بسبب الضغوط الأمنية، اقترب منه أحد عناصر الأمن البعثي وسأله "لماذا تخاطر بحياتك؟ ألم نأمرك بعدم الاقتراب من هذا المكان؟".

شعر حسن، أن عبارات الوعيد والتوهين التي سمعها من عنصر الأمن البعثي ذاك، تخفي وراءها الكثير من التهديد، فابتعد قليلًا بصمت وهو يردد في نفسه "إنكم لا تعرفون قيمة هذا المكان ولن تعرفوه".


من العمل الطوعي إلى الوظيفة الرسمية


مرت السنوات، وانزاحت الغمّة عن صدور محبّي آل البيت -عليهم السلام-، واستمر حسن يزاول عمله بحب في العتبة المقدسة دون أن ينتظر مقابلًا من أحد رغم تشكل الإدارات الجديدة في 9/4/2003م وتأسيس منظومة الأقسام والشعب والوحدات التابعة لها.

وفي 2004، وبعد سنوات من الإخلاص، فوجئ بصدور أمر تعيينه رسميًا في العتبة العباسية المقدسة، من قِبل اللجنة الثلاثية التي كانت تدير عتبات كربلاء المقدسة والمنصبة كمتولية لها من قبل المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف.

قرار اللجنة جاء ليكافئ حسن على سنوات من الخدمة التطوعية الخالصة بتنظيف محيط العتبة العباسية المقدسة وكان ذلك اليوم مليئًا بفرح غامر.

يقول حسن: "شعرت أنّ الله تعالى كافأني على خدمتي لأبي الفضل العباس -عليه السلام- وتيقّنت أن عملي يقرّبني من آل البيت -عليهم السلام-".

 بعد أكثر من 25 عامًا من الخدمة في العتبة العباسية المقدسة، لا تزال ابتسامة حسن لا تفارقه، يقابل الزائرين بكلّ حبّ، ويستمع إلى أحاديثهم التي يودّون تبادلها معه، ويشعر بأنهم جزء من حياته، بل إنه يعرف عديدين منهم يتردّدون على الزيارة في السنوات التي عمل فيها هنا.

لم يقتصر احتواء ذوي الاحتياجات الخاصة على حسن، بل شمل غيره في منتسبي العتبات المقدسة، إذ وجّه سماحة المتولي الشرعي للعتبة العباسية المقدسة، السيد أحمد الصافي بتعيين عدد منهم بهدف دمجهم في المجتمع وتوفير مصدر دخل ثابت لهم.

 كانت المبادرة بمثابة بصمة نور في حياة كثيرين، يقول يونس نعمة، معاون رئيس قسم الشؤون الخدمية في العتبة العباسية المقدسة: "هذه المبادرة تعكس التزام سماحة السيد والعتبة المقدسة بدعم الشرائح الأكثر احتياجًا، ومنحهم الفرصة ليكونوا فاعلين في المجتمع، وقادرين على إعالة أسرهم وتحقيق الاستقرار الاقتصادي لها".

 وقد وضع لذوي الاحتياجات الخاصة ممن شملتهم المبادرة، برنامج عمل خاص يمكّنهم من أداء الأعمال التي تناسب قدراتهم الجسدية دون مشقة وتعب".

وقد غيّرت هذه المبادرة حياة العديدين مِمّن شملتهم ومن بينهم حسن، الذي يعيش حياة مستقرة مع أسرته وأبنائه الأربعة، وهو يأمل بأن يظلّ خادمًا في العتبة العباسية المقدسة حتى آخر لحظة من حياته، وأن تكون خاتمته بين جدران الحرم المقدس.