
في الصباح الباكر، يقود أحمد، سائق الحافلة الصغيرة، حافلته يوميا بين بغداد وكربلاء، يتنقل بين الطرقات وكأنّ الطريق قد أصبح رفيقه الدائم، وقد اعتاد مشاركة المسافرين أحاديثهم التي تحمل همومهم وآمالهم.
وفي بعض الأحيان، يتدخل لإضفاء لمسات من الأمل، محاولًا التخفيف من وطأة الهموم التي يحملها الركاب، ويسعى لإشعارهم بالرضا.
أحمد، في منتصف العمر، ذو لحية خفيفة تزين وجهه الذي يحمل ملامح سمحاء، يرتدي (الدشداشة)، زيّه التقليدي الذي يعكس بساطته وارتباطه العميق بجذوره.
في مساء أحد الأيام وفي أثناء عودته من بغداد مع ركّابه، وعند اقتراب غروب الشمس، يصل أحمد إلى مجمّع الشيخ الكليني، يرى أحمد أنّ التوقف في هذا المجمّع جزءًا لا يتجزأ من رحلاته اليومية؛ لأنّه يتيح للركاب فرصة لأخذ قسط من الراحة وأداء الصلاة وتناول العشاء.
ورغم أنه لا يستطيع التوقف يوميًا في المجمّع بسبب التزامه بحركة المسافرين، إلا أنّه يحرص على التوقف كلمّا أتيحت له الفرصة.
يقول أحمد: "هذا المكان مميز، فهو مكان مهيأ للصلاة والدعاء، وتناول الطعام هنا له طعم خاص، أشعر بأنني مرحب بي وكأنني بين أهلي، وما نتلقاه من حفاوة يعكس الكثير من الحب والكرم الذي يتمتع به العاملون في المجمّع، فضلاً عن الحدائق الغنـّاء".
إلّا أنّ علاقة أحمد بمجمّع الشيخ الكليني لا تقتصر على ما يُقدّم فيه من خدمات وما يتيحه لزائريه من الاستمتاع، بل تمتد إلى أبعاد روحية أعمق.
يتحدث أحمد بحرارة عن الأجواء الروحانية في المجمّع قائلاً: "هذا المكان ليس مجرد محطة للتوقف، بل هو واحة روحية نجد فيها السكينة والسلام الداخلي والراحة النفسية.
يشعر أحمد أنّ توقفه في مجمّع الشيخ الكليني يمثل له ملاذًا روحانيًا يختم به يومًا طويلًا من العمل الشاق والمتعب، فهو يجد في هذا المكان ما يعزز إيمانه ويوفر له الهدوء النفسي، ويخفف من وطأة المتاعب والانشغالات اليومية التي ترافقه في سعيه المستمر نحو العيش الكريم وتحقيق أهدافه الأسرية.
وفي قلب هذا الملاذ الروحاني، يتألق الطاهي محمد عباس، محاطًا بإبداعه وإخلاصه، فقد اختار أن يجعل من هذا المطبخ مملكته الخاصة منذ أكثر من عشر سنوات.
تجاوز محمد حدود إعداد الطعام التقليدي ليصبح عمله تعبيرًا عن الحب والكرم الذي ينثره في كل طبق، والطهي بالنسبة له ليس مجرد مهنة، بل هو رسالة تُكتب في كل طبق يُقدّم للزوار.
أنشأت العتبة العباسية المقدسة مجمّع الشيخ الكليني وتديره، وتحرص على خدمة الزوار انطلاقًا من حرص القائمين على إدارتها على التواصل مع الناس بحب، وقد سمي المجمّع بهذا الاسم تيمنا بالشيخ محمد بن يعقوب الكليني، (329 ه/ 941م) أحد أبرز علماء الحديث والفقه في المذهب الشيعي، ومؤلف كتاب الكافي الذي يعد من كتب الحديث الأربعة عند الشيعة الإمامية.
يظهر الحرص على خدمة الزوار جليًا في كل تفاصيل المجمّع، بدءًا من الطعام الذي يعده الطاهي محمد عباس، وصولًا إلى الاهتمام بالزوار وتوفير جميع سبل الراحة لهم.
نشأت بين سائق الحافلة أحمد والطاهي محمد علاقة صداقة واحترام متبادل، فقد اعتاد أحمد على التوقف في المجمّع عند نهاية كلّ رحلة، وكان دائمًا ما يشيد بجودة الطعام وحسن ضيافة الطاهي، وفي كلّ مرة يلتقيان، يتبادلان الحديث حول العمل والمشاعر الطيبة التي يتركها كل طبق يتم تحضيره.
رحلة يومية مليئة بالعطاء
يبدأ الطاهي محمد يومه مبكرًا جدًا، مرتديًا مئزر العمل كرسّام يستعد لتحضير لوحة فنية، يضع خطة يومه بعناية فائقة، متأكدًا من توافر جميع المكونات والأدوات اللازمة.
يقول وهو يعاين بعض المواد التي ستدخل في وجبتي الغداء والعشاء لهذا اليوم: "إعداد الطعام ليس مجرد عمل، بل رسالة لإكرام الضيوف وإسعادهم كونه يُقدم مجاناً".
ويمضي في تحضير الوجبات، كمن يسكب حُبًا في كل طبق.
ولا يعمل، محمد بمفرده، فهو يقود فريقًا صغيرًا من المساعدين الذين يشاركونه نفس الشغف والإخلاص.
يقول أحد مساعديه: "محمد ليس مجرد طاهٍ، بل هو قائد يعلمنا أنّ الخدمة تبدأ من القلب".
يشتهر محمد بإعداد الأطباق التقليدية التي يفضلها زوار المجمّع، لكنه دائمًا ما يضيف لمسة فنية تعكس شغفه وحبه للطهي، فبالنسبة له، كلّ طبق يحمل قصة، وكلّ زائر يستحق تجربة لا تُنسى.
شهادات الزوار
في أثناء تناول وجباتهم، يشيد الزوار بجودة الطعام وحسن الضيافة، فيقول أحد الزوار: "الطعام هنا لا مثيل له، يمكنك أن تشعر بحبّ الطاهي في كلّ لقمة".
ويضيف زائر آخر، "أحب المجيء إلى هنا ليس فقط لتناول الطعام، ولكن لأشعر بجو الدفء والكرم الذي يخلقه محمد وفريقه."
في ذات السياق يذكر مدير مجمّع الشيخ الكليني، حسين تمكين صبار، أنّ المطبخ يسهم بشكل كبير في تقديم خدمات الطعام للزوار، ويقول: "يضمّ المجمّع قاعات طعام تتسع لعدد كبير من الزوار يوميًا، نحن ملتزمون بتقديم أفضل الخدمات والطعام لوجبتين في اليوم بأعلى جودة".
يضيف حسين، أنّ المجمّع يحتوي على 42 غرفة وقاعة للمنام وأخرى تستخدم في الزيارت للمنام وفي الأيام العادية للندوات والمؤتمرات وقاعة مخصصة للطعام، ويبلغ العدد اليومي للزوار في الأيام الاعتيادية ما بين 150-200 شخص، بينما يصل العدد إلى 1300-1500 شخص في أوقات الزيارات المليونية وأيام الذروة.
نهاية يوم عمل طويل
مع غروب الشمس وانتهاء يوم عمل طويل، يجلس محمد على كرسي صغير في زاوية المطبخ، يتأمّل الزوار وهم يستمتعون بوجباتهم، يقول بكثير من المودة: "رؤية الناس سعداء راضين هو الأجر الحقيقي".
وبعد يومه المتعب، يلمّع أدواته بعد غسلها ويعيد ترتيب المطبخ بأبهى وأجمل صورة، استعدادًا ليوم جديد مليء بالعطاء، مدركًا أنّ العمل في هذا الموقع ليس مجرد وظيفة، بل رسالة تُكتب بالطعام.