
بين الحياة والموت.. كانت سبأ ترقد في احد مستشفيات المدينة، فيما يجهد الأطباء من حولها في إنعاشها بكل وسيلة ممكنة.
تلك الجهود التي تكللت بالنجاح لم تكن سهلة على الأطباء، خصوصا أن ما تعرضت له الطفلة من أذى لم يكن شيئا عاديا، إذ كان جسدها ووجهها مليئا بالكدمات والرضوض، الأمر الذي دفع الأطباء بعد الاطمئنان على استقرار وضعها الصحي إلى إبلاغ مفارز الشرطة التي بادرت على الفور في استجواب والدتها.
استعباد وتعنيف
سبأ ذات الثلاثة عشر ربيعا لم تكن سوى ضحية لمريض نفسي، كان ينفس من عقده الشخصية عبر تعذيبها نفسيا ومعنويا بشكل دائم، بعد أن وجدت نفسها متروكة بصحبة هذا الرجل الذي شحت بداخله مشاعر الرحمة والعطف.
فهي كانت مجرد خادمة تحضر الطعام وتغسل الثياب وتنظف المنزل الذي كان سجنا لها على مدى أشهر طويلة، تكتم آهاتها ومعاناتها بشكل قسري، حتى ارتسمت على وجهها معالم البؤس إلى جانب الكدمات الزرقاء الناجمة عن تعرضها للتعنيف المتواصل.
فقد تعرضت إلى الضرب المبرح بالعصي وبالأحزمة الجلدية بشكل مستمر إلى جانب الإهانات والشتائم لأبسط الأمور، ولتكون خاتمة معاناتها الرقود في المستشفى وهي على شفير الموت.
تقول والدة سبأ وهي تدلي بإفادتها إلى ضابط الشرطة الذي كان يستجوبها، "لم أكن قادرة على تحمل الأمر، فقررت الهرب وتركها لأنجو بنفسي".
وتضيف، "لقد تعرضت للضرب والتنكيل مثل ابنتي سبأ ولكن كنت قادرة على الهرب منه إلا انها لم تستطع".
وتسترسل باكية، "كنا نتعرض بشكل متساو للتعنيف، لكن بعد أن نجوت بنفسي واجهت وحدها هذا الجحيم".
ذئب برداء حمل
ساعات قليلة كانت كفيلة بإلقاء القبض على الجاني، الذي لم يكلف نفسه بالتساؤل عن مصير ضحيته، غير مبالٍ بما سيواجه من عقوبة قد تقوده إلى السجن لعدة شهور، بعد أن يمنع من التقرب من الضحية بقرار قضائي.
فالجاني الذي سلبت من قلبه مشاعر الأبوة كان والد سبأ، تلك الصبية التي تعرضت لهذه المأساة بعد أن هجرتهم والدتها وانفصلت عن والدها بسبب ممارسة العنف المفرط إزائها.
فقبيل نقلها إلى المستشفى كانت سبأ تتعرض للضرب بوحشية من قبل والدها الذي غادر المنزل بكل اريحية تاركا وراءه ابنته بين الموت والحياة، فلجأت إلى الجيران الذين تكفلوا بالاتصال بوالدتها لإسعافها.
العنف الأسري
ما تعرضت له سبأ لم يكن حالة فريدة من نوعها، اذ تظهر بيانات رسمية انتشار هذه الظاهرة في مختلف مدن العراق، مخلفة المئات من الضحايا المعنَّفين، وعلى الأرجح أن ضعف الحالات المعنفة تعاني بصمت دون أن تجد من ينقذها.
فالسيدة (ز- م) هي الأخرى التي تعرضت إلى التعنيف بشكل متواصل من زوجها قبل أن تنفصل عنه.
فتقول، "بدأت معاناتي بالتعرض للضرب المبرح من قبل زوجي بعد شهر واحد من الزواج".
مبينة، "كان يعنفني لأتفه الأسباب ويعتدي علي بوحشية ويعاملني بازدراء".
وتضيف، "لجأت إلى عائلتي واخبرتهم بذلك، ولم يوافقوا على أن اتطلق منه، معتبرين ما ادعيه مجرد مبالغة واجبروني على العودة اليه".
وتتابع، "تكرر الأمر لعدة مرات ولا أجد وسيلة للخلاص، ولكن في آخر كرة ضربني بشدة مما خلف عدة كدمات في وجهي وجسدي، الأمر الذي دفع بأهلي بالموافقة على الانفصال والخلاص من عنفه".
بيانات رسمية
وتظهر معظم الإحصائيات أن نسبة اعتداء الزوج على الزوجة بلغ عام 2019، 60% وعام 2015، 55% وعام 2015، 50% وكذلك اعتداء الزوجة على الزوج بنسبة 9% بشكل عام.
ويؤكد مسؤول مديرية مكافحة العنف الأسري والطفل في محافظة كربلاء المقدسة العميد الحقوقي علي محمد سالم، على أن "إجراءات وزارة الداخلية سريعة ورادعة ضد هذه الحالات".
مبينا، "وجود ضباط من كلا الجنسين حاصلين على شهادات في علم النفس والقانون وشهادات تخص العنف الاجتماعي والعنف الجنسي لتقديم أفضل الخدمات للمعنفين من الرجال والنساء والأطفال خلال 24 ساعة".
ويضيف، نتعامل مع المعنفين سواء من الرجال أو النساء وحتى الأطفال من خلال تدوين أقوالهم حين طلب الشكوى على الأزواج أو الأبناء ومن ثم يتم إرسالهم إلى المستشفيات لغرض تقديم الخدمات الطبية لمعالجتهم، ومن ثم عرض الموضوع على السيد قاضي التحقيق المختص وبعد ذلك يصدر القاضي قراره بحق المعتدي".
ويذكر العميد علي محمد سالم إحدى الحالات سريعة الاستجابة التي نفذها أفراد المديرية، "ذات يوم هناك امرأة معرضة للعنف من قبل زوجها واحتجزها في داخل إحدى الغرف في الدار وأقفل كل الأبواب عليها لفترة زمنية طويلة هي وأطفالها".
ويتابع، "اتصلت على الرقم 139 الخاص بالإبلاغ على حالات العنف الأسري، وتم بشكل مباشر إطلاع قاضي التحقيق لإجراء تحر بشكل إصولي، وانطلقنا بدورنا لإنقاذ المرأة وأطفالها من الحالة التي كانت بها، وبعد ذلك تم إنقاذها وألقينا القبض على الفاعل".
مبينا، "كل ذلك فعلناه بسرية تامة لأن سرية المتصل ورقم هاتفه من أولويات عملنا".
ويشير مسؤول مديرية مكافحة العنف الأسري والطفل إلى، ان "العنف الأسري ظاهرة تنتشر في الاماكن الفقيرة التي تكون بها الحالة الاقتصادية ضعيفة".
ويتابع، "اما الاماكن الميسرة ماديا نرى ان العنف الأسري حالة نادرة بها".
ويضيف، "بادرنا إلى تسيير حملات إلى المعاهد والمدارس والمستشفيات والمستوصفات بالتنسيق مع قسم الشرطة المجتمعية لإلقاء المحاضرات في المناطق الشعبية السكنية المكتظة بالسكان للتوعية بشأن العنف الأسري".
سبب الظاهرة
من جانبه يوضح استشاري الأمراض النفسية الدكتور محمد رضا ورور أن "العنف الأسري مفهوم مستحدث في العالم الغربي والشرقي".
ويقول، "بدأت عملية دراسته من ثمانينات القرن الماضي، حيث كان القضاء والمؤسسات العسكرية لا تتدخل في الأسرة وكانت تعده شأنا خاصا بداخل المنزل اي الأسرة".
ويضيف، "في التسعينات سنت قوانين العنف الأسري، لان الطرف القوي يعنف الطرف الضعيف في داخل الأسرة".
ويرى الدكتور محمد رضا ان هذه الظاهرة بسبب قوة المعتدي البدنية اذ يؤذي الضحية لأي سبب كان، ويفعل ذلك ليحصل على مراده، او بسبب العاطفة ومن شدة حبه للضحية يضربها لأتفه الأسباب.!
مبينا، "قد يكون ناجما عن الاذلال الاقتصادي، كون الضحية مجبرة على تأمين احتياجاتها من قبل المعتدي، فتراه يستقبل الاعتداء أو العنف بصمت".
مركز الثقافة الأسرية
بدورها بادرت الأمانة العامة للعتبة العباسية المقدسة إلى التصدي لهذه الظاهرة عبر تأسيس عدد من المراكز والشعب الثقافية، مستعينة بملاكات مهنية متمكنة من المهام الموكلة إليها.
إذ أسست العتبة المقدسة مركز الثقافة الأسرية، وهو مركز نسوي يستقبل النساء فقط، يعمل على نشر الثقافة الأسرية من ناحية التوافق والتفاهم بين افراد الأسرة إلى ان نصل إلى توازن بين العطف والشدة والفرح والحزن من خلال الدورات والندوات والكتيبات والنشر الالكتروني، وتقديم النصح عبر الهاتف.
وبحسب مديرة المركز السيدة سارة الصفار، فان "المركز نجح في معالجة العديد من حالات الاضطراب النفسي التي تعاني منها بعض النساء، من خلال جلسات من العلاج المعرفي السلوكي، وبإشراف طبيبة مختصة وملاك إرشادي مدرب على العلاج المعرفي السلوكي".
وتضيف، "كذلك معالجة الكثير من المشاكل الزوجية وإنقاذ الأسرة من حالة الطلاق من خلال تصحيح الاخطاء وإنقاذهم من بعض القناعات الخاطئة، وعلاج الكثير من الأمراض النفسية مثل القلق والانحرافات العقائدية والانحرافات الأخلاقية والقيمية والدينية، وعالجنا الكثير من الحالات التي وصلت إلى حد الانتحار".
وتظهر إحصائيات المركز إلى كونه استقبل خلال سنوات 2018 إلى 2023 اكثر من 12.083 حالة، إذ تمكن من معالجة ما يقارب 580 حالة، أما بقية الحالات فهي قيد المتابعة والعلاج.
وتشير مديرة المركز إلى، أن "معظم المعنفين مصابون بأمراض نفسية كالكآبة أو الرهاب الاجتماعي أو الذهني، فيعرضون أبناءهم أو آباءهم أو زوجاتهم للتعنيف".
ويعمل في المركز 25 منتسبة مقسمات على وحدات خاصة بالمركز وهن وحدة الدعم والإرشاد النفسي ووحدة الطفولة ووحدة المراهقة الزوجية ووحدة الطب النفسي ووحدة الأنشطة والتدريب ووحدة الإعلام ووحدة الإدارة الذاتية والمالية.
قسم الشؤون الدينية
قسم الشؤون الدينية أيضا خصص شعبة منفردة لمعالجة هذه الظاهرة، فيبين المرشد الديني في قسم الشؤون الدينية الشيخ محمد ياسر أن لدى العتبة العباسية المقدسة جهودا حثيثة لمعالجة ظاهرة العنف الأسري، عن طريق الرشد والنصيحة وجمع الأطراف المتخاصمة للوصول إلى أفضل حل ممكن.
ويقول، "العنف الأسري من القضايا التي حرمها الله على المسلمين ومنعهم باختلاف الدوافع، حيث فرض الشرع ديات على من يضرب أحد أفراد عائلته وتقسم حسب نوع الضرر الذي تأثر الجسم به".
موضحا، "لا يقتصر العنف على الأب فقط فأحيانا تعنف الزوجة أبناءها أو زوجها إذا كان مريضا وتترتب المعالجات ذاتها على جميع أفراد الأسرة إذا ارتكبوا العنف، حيث وضع الإسلام هذه الإجراءات للحد من العف الأسري".
ويضيف، "وفرت العتبة مشايخ يسعون إلى حل هذه المشاكل والأزمات، وبعض الحالات تعطي العتبة أموالا من قسم الشؤون الدينية لحل المشاكل، وإذا كان المبلغ كبيرا نسبيا فترفع إلى سماحة السيد احمد الصافي، واذا كان كبيرا جدا فترفع القضية إلى المرجعية في النجف الأشرف".