تتجدد كلّ عام

أطول معركة في التاريخ الإنساني

بحزم شديد وتوجيهات صارمة يتنقل "رشيد" بين صفوف كراديس الفرسان المدججين بالسلاح، متفحصًا سيوفهم وخوذهم وأماكن تمركزهم التي سبق أن جرى توزيعهم عليها.

فالحاج رشيد الذي بلغ من العمر "عِتيّا"، حريصًا أشدّ الحرص على أنْ تبدو مظاهر الشدّة والرهبة على قواته التي تستعد للانطلاق صوب المدينة القديمة في كربلاء المقدسة، قائلًا: "هدفنا عن طريق هذا الاستعراض العسكري إثارة مشاعر الناس بمظاهر الهيبة والجدية".

ويفوق عدد الفرسان والجنود المنظِّمين في كراديس الجيش المتوجه إلى وسط المدينة القديمة (400) فارس وجندي، ما بين الخيالة والمشاة وقارعي الطبول.

ويهدف تنظيم هذا الاستعراض الذي هو أشبه بمسرح فني جوّال لاستحضار جانب من واقعة الطف التي جرت عام 61 للهجرة في نفس مكان الاستعراض.

فعلى أرض المدينة القديمة حيث مرقدي الإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس -عليهما السلام- ملحمة كربلاء، التي دارت رحاها بين أبناء العترة المطهرة لرسول الله - صلى الله عليه وآله - من جهة، والجيش الأموي ليزيد بن أبي سفيان من جهة أخرى.

وتشارك عشرات المواكب العزائية في إحياء مناسبة عاشوراء عبر فعاليات اجتماعية مختلفة، في طقوس متوارثة منذ أجيال تُعرف بالشعائر الحسينية.

وتتضمن تلك الشعائر إعداد مواكب (التشابيه)، وهي عبارة عن تجسيد تمثيلي لطرفي المعركة التي وقعت طيلة فترة الأيام العشرة من شهر المحرم في كلّ عام.

فموكب عزاء جمهور الحيدرية الذي ينتمي إليه الحاج رشيد تأسس عام 1932 للميلاد، ويعد من المواكب العزائية متوسطة القدم تاريخيا، إذ هناك عشرات المواكب التي تأسست قبل هذا التأريخ بعقود كثيرة.

وتنقسم مواكب عزاء التشابيه على قسمين، حسب الجهة التي تمثلها، فهناك مواكب تستعرض أفراد معسكر الإمام الحسين -عليه السلام- ومواكب أخرى تستعرض كراديس الجيش الأموي.

يقول سجاد أبو رملة أحد خدمة مواكب العزاء، "معظم تفاصيل التشابيه مستندة إلى روايات موثوقة من تراث أهل البيت -عليهم السلام-".

مبيّنًا، "نحرص في أثناء إعداد التشابيه على الإخلاص في الأداء بدقة متناهية في التفاصيل".

مُشيرًا، "حتى عمامة الإمام الحسين -عليه السلام- التي ورد في الروايات أنها كانت مورّدة، نحرص على أن تكون كذلك".

"هذه التفاصيل الصغيرة تحيي الرواية وتشعرنا أنّنا نعيش مع الحدث حقًا"، يقول أبو رملة.

موضحًا أنّ اختيار الممثلين لا يكون عشوائيًا، بل بدقة شديدة، "فكلّ من يجسّد شخصيةً في التشابيه، يكون معروفًا في كربلاء بأنّه من أبناء خط المرجعية ومن حفظة القرآن وأهل الصلاح والتقوى، ومن الحاصلين على تزكية اجتماعية".

بدوره يعلق الحاج عبد الحسن الصفار على تلك الطقوس قائلا: "نحن لا نُمثّل فقط... نحن نُخبر العالم بأّن الحسين حيّ فينا، وأنّ كربلاء ليست مجرد أرض، بل هي فكرة، وراية، ودمعة لا تموت".

مضيفًا، "التشابيه في كربلاء ليست مجرد مسرحًا، إنّها رواية حيّة يتفاعل فيها الإيمان بالدمع، ويُعيد فيها القلب سرد مآسي أهل البيت، لا ليبكي فقط، بل ليُعيد تعريف نفسه أمام التاريخ.

مختَتما، "الحسين ما زال يدخل كربلاء... والناس ما زالوا يستقبلونه، بين الوردة والسيف، بين الماضي والحاضر، بين الظلم والعدل... يقف الحسين رمزًا لا يُمحى، وصوتًا لا يُخمد".

وتبدأ فعاليات مواكب التشابيه ابتداءً من اليوم الثاني من شهر المحرم، وهو بحسب الروايات يوم دخول الإمام الحسين -عليه السلام- إلى كربلاء، ويستمر البرنامج اليومي حتى يوم 11 محرم، تأريخ خروج السبايا إلى الكوفة، إذ يُعاد تمثيل هذه اللحظات القاسية التي مرت بها نساء آل البيت -عليهم السلام-.

ويشرح إبراهيم شاكر، أحد خدمة موكب التشابيه، "نبدأ في الأيام الأولى بشخصيات مثل أولاد مسلم، ثم الإمام الباقر، فالإمام العباس، فالإمام الحسين وعبد الله الرضيع".

ويتابع، "كل يوم نجسد شخصية مع الزنجيل والعزاء والدمامات، من اليوم الثاني إلى يوم التاسع يوميًا نمثّل ونحيي".

الإعداد والتحضيرات على مدار العام

كلّ موكب من مواكب التشابيه يضمّ أكثر من 400 فرد، موزعينَ على كراديس خاصة ومقسَّمينَ وفق آلية عمل منظمة، ولكلٍّ منهم مهامه الخاصة.

وبحسب المشرفين على المواكب فإنّ جهود الخدم فيها لا تقتصر فقط على أيام عاشوراء، بل تستمر على مدار السنة، فهم يصنعون الملابس والأزياء الخاصة بالتمثيل، ويُحضّرون الخيول، ويجهزون الروايات التي يعتمدون عليها.

بالإضافة إلى ذلك يوجد فريق عمل متخصّص في كلّ موكب، مهمته استعارة وتحضير الإبل والخيول قبل جلبها من مدن المحافظات الجنوبية، والتي يجب أن تتميّز بمواصفات خاصة قادرة على تحمل الصخب والأجواء في المدينة.

فيما تُعدّ مستلزمات التشابيه بأيادٍ متخصصة، فيقول إبراهيم شاكر، "كل شيء من عمل أيدينا ولدينا مكائن وآليات خاصة، ومكان واسع خاص لذلك".

مسؤول موكب "واحسينا"، الحاج أحمد رشيد عبد، يقول: "موكبنا يظهر أمام الزائرين باستعراضٍ لدخول الجيش الأموي إلى كربلاء يوم الثالث من المحرم".

ويعرض الموكب بحسب كلام الحاج أحمد رشيد جانبًا من واقعة معركة كربلاء، فيقول: "الاستعراض يحاكي المواجهة بين جيش الإمام الحسين وجيش عمر بن سعد".

و"عمر بن سعد هو أحد قادة الجيش الأموي الذي قاتل الإمام الحسين عليه السلام".

بالإضافة إلى ذلك يشمل استعراض التشابيه تجسيد رموز واقعة الطف، مثل عمر بن سعد، وقيس بن الأشعث، والشمر بن ذي الجوشن.