
بنظرات مستبشرة يشاهد محمد والده وهو يساعده في تشييد تكية له في الزقاق المحاذي لمنزلهم.
فمحمد الذي يحذوه الاندفاع للمشاركة في إحياء مناسبة عاشوراء عبر تقديم خدماته البسيطة للمارة وهم في طريقهم إلى العتبات المقدسة بالمدينة.
ويتبين أنّ محمد الذي يبلغ من العمر ثمان سنوات نشأ في مدينة كربلاء المقدسة واكتسب ممن سبقوه ثقافة عاشوراء، تلك الثقافة المرتكزة على مبادئ لا حصر لها من مكارم الأخلاق.
ومع حلول شهر المحرم من كلّ عام تشهد هذه المدينة تشييد مواكب خاصة للأطفال، يتبنون تشييدها بأيديهم حبا بالمشاركة في الشعائر الحسينية، جنبًا إلى جنب، الآباء والأمهات.
لمحمد صديقان مقربان، هما: عباس المعروف بذكائه وشخصيته المرحة، وزينب، الفتاة النشيطة التي تُعرف بشجاعتها.
قرر الأصدقاء الثلاثة أن يشيدوا (تكية) صغيرة في زقاقهم، حيث يمكنهم تقديم الطعام والشراب للزوار الذين يأتون في تلك الأيام المباركة.
بدأوا بتجميع الاحتياجات، اشترى محمد بعض الألواح الخشبية، بينما أحضرت زينب قطع القماش الملونة لتزيين (التكية)، وجلب عباس بعض المصابيح لتضيء المكان، كانوا متحمسين لأنّهم يعرفون أنّ أعمالهم ستساهم في خدمة زوار الإمام الحسين – عليه السلام-
أثناء تشييد التكية، كان محمد يتحدث مع أصدقائه عن أهمّية خدمة زوار الإمام الحسين قائلًا: "إنّ ما نقوم به هو تعبير عن حبنا ومواساتنا للإمام الحسين، فنحن نشارك في إحياء شعائره، وهذا أمر مهم جدًا".
والدا محمد شعرا بالفخر، إذ كان والده يعرف قيمة خدمة زوار الإمام، يدعمه ويقول له: "ما تقوم به هو عمل نبيل، ويجب أن تسعى دائمًا لخدمة الآخرين".
أمّا والدته، فكانت تحضّر لهم الطعام والشراب (للتكية)؛ لتشجيعهم على الاستمرار في العمل.
بعد أيّام من العمل الشاق، انتهى الأصدقاء من بناء (التكية)، كانت صغيرة ولكنّها مليئة بالألوان والحماس.
في اليوم الأوّل من عاشوراء، افتتحوا التكية واستقبلوا الزوار بابتساماتهم البريئة، فقاموا بتقديم الشاي والمعجنات، فرحين وهم يشاركون الكبار طقوس عاشوراء.
كان محمد، وعباس، وزينب، يراقبون الزوار مفتخرين بما قدموه، وكانت قلوبهم مليئة بالعاطفة؛ لأنّهم كانوا يعلمون أنّ ما يقومون به هو أمر محط احترام الآخرين، فقد اكتسب الأصدقاء العديد من الدروس، تعلموا أهمية التعاون، وكيف يمكن لجهد بسيط أن يحدث فرقًا كبيرًا.
وأدركوا أنّ خدمة الآخرين تعزز من قيم الكرم والإيثار.
جاء إليهم أحد الشيوخ من حيهم، ووقف أمام (التكية) متحدثًا معهم عن أهمية الخدمة في الدين الإسلامي، وعن الإمام الحسين -عليه السلام- الذي ضحّى بنفسه في سبيل الحق.
قال الشيخ: "إنّ ما تقومون به هو تجسيد لقيم الإسلام، ويجب أن تستمروا في هذا العمل النبيل؛ لأنّه ليس مجرد خدمة، بل هو مدرسة في الإخلاص والعطاء".
وتحدث مع بعض رجال الحي، "ما يجري هو نشأة صحيحة تعزز في نفوس الأطفال أهمية التضحية، ويلهمهم عاشوراء روح الكرامة والإيمان".
أحمد مهدي، أحد جيران (تكية) الأطفال أشار إلى أمرٍ ملفت، "لقد تركوا هذه الأيام الشجار فيما بينهم، ولم يعودوا يشاكسون كما هي العادة".
مضيفًا، "في هذه الأيام نلحظ اندفاعهم في العمل الجماعي وروح المشاركة، إذ يجمعهم حبّ الحسين وروح خدمته".
مشيرًا، "تترجم سلوكياتهم وهم يقدمون الماء، ويوزعون الطعام، ويساهمون في التنظيف، ويرتدون زيّ الخَدَمة، وتعلو وجوههم علامات الجد، وكأنهم على موعدٍ مع رسالة مقدسة يتوارثونها جيلًا بعد جيل".
مع مرور الأيام، بدأ الأهالي في الحي يتحدثون عن (تكية) الأطفال، إذ كانت تتزايد أعداد الزوار يومًا بعد يوم، مما جعلهم يشعرون بالفخر. وبدأ الأطفال الآخرون في الحي يحذون حذوهم، ويقومون ببناء (تكايا) صغيرة خاصة بهم.
يشعر محمد وأصدقاؤه أنهم يحققون نجاحًا كبيرًا، ولم يكن النجاح مجرد بناء (تكية)، بل كان نجاحًا في تعزيز الروابط بين الأصدقاء، ونشر القيم الإنسانية في المجتمع.
غمرهم شعور بالفخر، وعرفوا أنّ أعمالهم ستُذكر في السنوات القادمة.
وبهذا، أصبح محمد، وعباس، وزينب مثالًا يُحتذى به في مجتمعهم، إذ أظهروا كيف يمكن للأطفال أن يكونوا جزءًا فعّالًا في خدمة قيمهم ومبادئهم، ويعبروا عن محبتهم للإمام الحسين -عليه السلام- عن طريق الأفعال الصغيرة التي تحمل معانٍ كبيرة.
مواكب الأطفال ليست مجرد تقليدٍ اجتماعي، بل هي منهج تربوي يُغرس في نفوس الصغار، فيكبرون على مفاهيم الفداء، والإيثار، والارتباط العقائدي العميق بثورة الإمام الحسين -عليه السلام-.
هم يتعلمون بهذه المشاركات أنّ حبّ الإمام الحسين -عليه السلام- لا يكون بالكلام فقط، بل بالفعل والسلوك والخدمة.
من أجمل ما يُرى في مواكب الأطفال، طفل يحمل إبريق الماء، ويوزعه على الزائرين، وطفلة تقدّم المناديل أو المعقمات للمعزين.
أطفال ينشدون "لبيك يا حسين" ببراءة تقشعرّ لها الأبدان.
هؤلاء الأطفال يرسلون للعالم كلِّه رسالةً تقول: الحسين ليس ذِكرى، بل هو حاضرٌ في الضمير والوجدان، حتى في قلوب الصغار الذين ما زالوا يخطون أولى خطواتهم في الحياة.
إنّ مشاركة الأطفال في المواكب الحسينية ليست فقط عملًا شعبيًا، بل هي زرعٌ لمبادئ النهضة الحسينية في نفوس الجيل الجديد، لتظل شعلة كربلاء متقدة عبر الزمن.