
الشيعة والعَشرة الأولى من شهر المحرم الحرام
بصيحات تتعالى وسط صخب الحشود المتجمهرة في أحد شوارع مدينة كربلاء المقدسة، يوجه علي العاملي الشبّان للوقوف ضمن الصفوف المفترضة قبل بدء مسير موكب العزاء.
فالمسؤولية التي تقع على علي كونه راعٍ لموكب عزاء طرف العباس -عليه السلام- تحتّم عليه إبراز الموكب في أثناء مسيرته في شوارع كربلاء بالمظهر البهي المطلوب، خصوصًا أنّه يشارك في إحياء الشعائر الحسينية التي تُقام لمناسبة عاشوراء، الذكرى السنوية لاستشهاد الإمام الحسين -عليه السلام- في واقعة الطف.
فيقول علي: "هذا واجبي في الليالي التسع للأيام العشرة الأولى من شهر المحرم الحرام"، مبينا، "عملية التحضير والإعداد والتنظيم تقع على عاتقي، ويساعدني أعضاء الموكب أيضا في هذه المهمة".
وتؤدّي مواكب العزاء طقوسًا موروثة تُعرف بالشعائر الحسينية تتضمن ترديد قصائد الرثاء لأهل البيت -عليهم السلام- وتبرز شجاعتهم ومرؤتهم وتضحياتهم في سبيل الدين الإسلامي.
وتتضمّن أيضًا فعاليات مواكب العزاء، اللطم على الصدور، والضرب بالسلاسل الحديدية على الظهور ضمن إيقاع موحد على أصوات القصائد الحسينية المُلحنة.
وتُعدُّ هذه الشعائر من الموروث الاجتماعي الشيعي، ويعود تاريخه إلى مئات السنين، إذ يُعبَّرُ بها عن الولاء لأهل البيت -عليهم السلام- وتجديد البيعة لهم.
وتشهد مدينة كربلاء المقدسة التي تحتضن هذه الشعائر الدينية وفود عشرات الآلاف من الزوار القادمين من داخل العراق وخارجه، الأمر الذي يستدعي تنظيمًا حثيثًا عالي الدقة، تشرف على تطبيقه العتبات المقدسة والسلطات المحلية في المدينة.
إذ يوضّح معاون رئيس قسم المواكب والشعائر الحسينية في العراق والعالم الاسلامي في العتبة العباسية المقدسة، الحاج كاظم محمد مسرهد، أنّ "الليالي العاشورائية تشترك فيها جميع الأطراف والمواكب الحسينية".
لافتًا، "يجري القسم عمليات التحضير وتسجيل مواكب العزاء التي تشارك في إحياء الشعائر الحسينية في عاشوراء منذ منتصف شهر ذي الحجة الماضي".
مضيفًا، "هناك تنسيق عال المستوى مع قيادة شرطة كربلاء المقدسة للشؤون القانونية ومديرية شرطة الحرمين الشريفين المتمثلة بشعبة الوافدين والزائرين لتأمين انسيابية حركة المواكب العزائية وسلامة الزائرين كلّ على حد سواء".
مبيّنًا، "هذا العام حصلت زيادة في أعداد المواكب إذ تم تسجيل (784) موكبًا وهيأة خدمية وعزائية، أمّا في العام الماضي فقد كان العدد (695) موكبًا".
ويكمل، "يبدأ دخول المواكب العزائية النهارية من الساعة التاسعة صباحًا إلى أذان المغرب وبعدها يبدأ دخول المواكب الليلية".
مشيرًا، "عُقدت اجتماعات عِدّة مع مسؤولي المواكب العزائية؛ لتحديد خط دخول المواكب ومسيرها ودخولها إلى العتبات في الأيام العشرة الأولى من المحرم الحرام".
ويتفق علي العاملي مع حديث الحاج كاظم مسرهد، معلقًا، "ننسق مع قسم المواكب والشعائر الحسينية لتحديد وقت انطلاق الموكب ومسراه في شوارع المدينة القديمة".
لافتًا، "التجمع والإعداد يبدأ بعد صلاة العشاء في منطقتنا قبل الانطلاق".
السياق التاريخي للشعائر الحسينية
بدوره يرى سعيد زميزم، أحد أبرز المؤرخين للشعائر الحسينية، أنّ "بذور الشعائر الحسينية أينعت مباشرةً بعد استشهاد الإمام الحسين -عليه السلام-، وكان أول من أحيا هذه الذكرى هو الإمام زين العابدين -عليه السلام-، ثم توالى على إحيائها الأئمة الأطهار -عليهم السلام- واحدًا تلو الآخر".
مشيرًا إلى أنّ "الإمام جعفر الصادق -عليه السلام- كان أكثر الأئمة اهتمامًا بإحياء القضية الحسينية، ربما للمرحلة الحساسة التي عاشها بين زوال وبدأ دولتين الأموية ثم العباسية، وكان يقيم مجلس عزاء خاصّ في الليالي العشرة من شهر المحرم، وذلك في سنة 125 للهجرة، وكان يستدعي المنشد المعروف "أبو هارون المكفوف -وهو ضرير- ويطلب منه قراءة الشعر بعبارة مضمونها "أنشدني كما ينشد أهل العراق".
ويعلّق زميزم على هذه العبارة قائلًا: "هذا الطلب يدلّ على أنّ أهل العراق كانوا هم المؤسسين الأوائل للشعائر الحسينية بصيغتها المتعارفة اليوم، وحماة ديمومتها على مرّ العصور"".
وبحسب السياق التاريخي، يبيّن زميزم أنّ "أوّل دولة شيعية مارست الشعائر العاشورائية بشكل رسمي هي الدولة العباسية في العراقعندما كان على رأس السلطة التنفيذية فيها البويهيين بمثابة رئاسة الوزراء اليوم، بعدما كان أحد أمرائها يشرف بنفسه على إقامة المجالس والطقوس، ويزور كربلاء، وقد أنفق أموالًا طائلة في تعمير العتبتين المقدستين الحسينية والعباسية".
ويتابع، "بعدها تبنّت الدولة الحمدانية في سوريا هذه الشعائر، ثم أعقبتها الدولة الفاطمية في مصر، والتي بلغت في اهتمامها بالقضية الحسينية حد تعطيل الدوائر الرسمية يوم العاشر من المحرم، وإطلاق سراح المساجين تكريمًا لهذه المناسبة".
السلطات الغابرة والتعسف
ويشير زميزم، "هذه الطقوس لم تخلُ من المنع، خصوصًا في فترة الاحتلال العثماني، إذ مُنعت الشعائر الحسينية من الظهور العلني، فلجأ شيعة أهل البيت -عليهم السلام- إلى إقامة المجالس في السراديب والمنازل الخفية في مختلف المدن العراقية".
وظلّ المنع قائمًا حتى عام 1827م، حين تولّى إدارة العراق الوالي العثماني علي رضا باشا، وهو من أتباع الطريقة البِكْتاشيَّة، التي تمزج بين التصوّف والتشيّع، وقد جاء محمّلًا بأفكار هذه الطريقة، وعندما استقبله وفود من كربلاء والنجف والكاظمية والكرادة، شَكوا له منع الشعائر، فأجابهم "من الآن فصاعدًا، أقيموها في العلن".
تطوّرت الطقوس مع الزمن، فتحوّلت إلى مراسيم عزائية واسعة تقام كل عام في الليالي العشرة الأولى من شهر المحرم، شملت المواكب، واللطميات، والقصائد، والرايات، والعروض البصرية، وصارت هذه الشعائر تمثّل هوية دينية وثقافية لأتباع أهل البيت -عليهم السلام- في العراق والعالم.
ويختتم زميزم بالقول: "الهدف الأساسي من إقامة هذه الشعائر هو إحياء ذكرى أهل البيت -عليهم السلام-، والتذكير بنهضة الامام الحسين عليه السلام في الحفاظ على الدين من التحريف والتزييف، استنادًا إلى قول الإمام الصادق -عليه السلام-،: أحيوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا.