image alt

هل تصلح العتبات ما أفسدته التجاوزات؟

هل تصلح العتبات ما أفسدته التجاوزات؟


"أثر بعد عين".. بنبرة حزن واضحة يصف الحاج زكي الدهان البساتين التي كانت تحيط بمدينة كربلاء المقدسة من كل جانب تقريبا، معلقا، "ذهبت بساتين المدينة كما ذهب اسلافنا دون رجعة".

والدهان الذي أمضى جل عمره الذي بات في خريف الثمانين وسط المدينة القديمة لمحافظة كربلاء المقدسة، وعاصر كما يروي التوسع الكبير الذي شهدته المدينة.

ويقول، "يغمرني الحنين إلى الماضي مع كل غروب يحل بالمدينة دون أن أسمع زقزقة الطيور في مهاجعها أو نسمات الهواء العليل التي كانت تصحب الظلمة في كل ليلة".

ويضيف، "أفتقد حتى نكهة الفواكه الكربلائية والمحاصيل الزراعية المميزة".

تلك المشاعر التي تؤلم الحاج زكي الدهان، يشترك فيها آلاف من أهالي المدينة القديمة في كربلاء، خصوصاً بعد تجريف معظم البساتين التي كانت تحيط بها.

يقول الحاج عبد الرسول الصواف، "كانت البساتين المحيطة بمركز كربلاء تمتد إلى أقضيتها دون انقطاع".

موضحا، "من جهة الشرق تمتد البساتين من منطقة العباسية الشرقية حتى قضاء طويريج خمسة عشر كيلو متراً طولاً، ومن جهة الغرب من منطقة باب الطاق حتى قضاء الحر بمسافة 10 كيلو متر طولاً".

ويتابع، أما من جهة الشمال، فكانت بساتين كربلاء تمتد من منطقة باب بغداد وحتى قضاء الحسينية لمسافة 20 كيلو متر طولاً".

ويضيف، "كانت كربلاء تصدر سلة غذائية متكاملة من المحاصيل الزراعية بصورة يومية إلى العاصمة بغداد ومدن الفرات الأوسط ومحافظة الأنبار أيضا".

مشيرا، "لطالما تميزت محاصيل كربلاء من التمور والفواكه والثمار الأخرى بنكهة مميزة جعلها في أفضل تصنيف محلي ودولي".

وتعد بساتين النواب وبساتين السيد أحمد جلو خان وبساتين بيت النقيب وبساتين آل ضياء الدين وآل ثابت وبساتين بيت وتوت وآل غريب والسادة الشرفة وبيت زنكَي وبيت ماميثه من أشهر البساتين في مدينة كربلاء المقدسة.

وبحسب مراقبين فإن الأعم الأغلب من بساتين المدينة الغناء جرى تجريفها بشكل غير قانوني، إذ يعزو بعض الأهالي الضرر الاقتصادي والبيئي الناجم إلى جشع اغلب "الملاك".

فيقول أبو كرار العقابي أحد سماسرة بيع وشراء الأراضي في كربلاء، إنّه "فضَّل اغلب ملاّك البساتين تجريفها وتخطيطها وبيعها كقطع سكنية بمبالغ مرتفعة".

مبينا أنه قد "جنى ملاّك البساتين مليارات الدنانير من ذلك ليجنوا أموالا لم يتخيلوها قط".

ويشير، "عزز من ذلك الامر الاقبال الكبير من قبل الوافدين على شراء القطع السكنية الزراعية".

والوافدون يقصد بهم المواطنين الذي نزحوا من مدنهم السابقة لظروف أمنية أو اقتصادية، إذ تشهد كربلاء موجات نزوح من مختلف مدن العراق، ابتدأت من ستينيات القرن الماضي ومستمرة حتى وقتنا الحاضر، بحسب الإدارة المحلية للمحافظة.

إلى ذلك انعكس تجريف البساتين سلباً على مناخ المدينة بشكل ملحوظ، وبحسب الأهالي القدماء إنّهم باتوا يعانون من تبعات التصحّر بشكل كبير.

فيقول الحاج جواد راضي، "كانت كربلاء تتمتع بهواء نقي وعليل ولم نكن مضطرين إلى استخدام وسائل التبريد".

ويضيف، "كانت السراديب في النهار والسطوح في الليل ملاذاً مريحاً للسكان خلال فصل الصيف".

ويلفت الانتباه إلى أنه "حتى العواصف الترابية كانت نادرة جداً وغير مؤثرة كما هو الحال في الوقت الحالي.

في حين يشير السيد حسين الموسوي إلى هجرة العديد من الطيور التي كانت تستوطن بساتين كربلاء، معلقا، "البلابل والزرازير القنابر وغيرها من الطيور التي كانت تعيش في البساتين باتت مفقودة".

مستدركا، "لولا حمام العتبات المقدسة لما رأيت جناحاً يرفرف فوق رأسك".

مقاومة مستمرة

إلى ذلك ما زال بعض ملاّك الأراضي يقاومون تحديات الإغراءات المالية والظروف الصعبة للوضع الزراعي بشكل عام في البلاد.

إذ يبدي المزارع علي الطائي الذي ما زال متمسكاً بدوانمه الزراعية الخمسة بما يراه "تراث آبائه وأجداده".

ويقول، "علمت أبنائي على الفلاّحة على الرغم من كونهم طلبة مدارس".

مشيرا، "أسعى إلى أن أزرع في قلوبهم حب هذه الإرث حتى وإن حصلوا على شهادات علمية أخرى".

ويشير الطائي وعلامات الحسرة بادية على وجهه، "شح المياه اضطرني إلى بيع نصف ما أملك من دوانم زراعية". مبينا، "كانت بساتيني تبلغ مساحتها عشرة دوانم ولم يتبق إلاّ النصف منها".

ويتابع، "مع الأسف غياب الدعم الحكومي للمزارع أسفر عن انحدار كبير في القطاع الزراعي بشكل عام".

ويستدرك بشيء من التفاؤل، "الحمد لله على نتاج التمور والحنطة والشعير بالإضافة إلى الخضروات كالبامية والطماطم".

أمّا المزارع محمد علي عاكف الذي يبلغ عمره 65 عاماً، وما زال متمسكّاً كما يصف بمهنة أجداده، فيبين إن ثلث بساتينه أصبحت أرض بوار بسبب شح المياه.

فيقول، "أملك 15 دونماً زراعياً، 10 دوانم مزروعة، فيما 5 دوانم أصبحت بوراً بسبب عدم توافر المياه الكافية للسقي".

ويضيف، "لا زلت محتفظاً بكل الأراضي الزراعية ولم أبع أي جزء منها فهي مقدسة بالنسبة لي ولن تُباع ما دمت أحيا فوق الأرض".

ويعاني العراق بصورة عامة من شح في موارد المياه بسبب سياسات دول المنبع خصوصاً تركيا، والتي شيدت عشرات السدود على نهري دجلة والفرات مما تسبب بانخفاض معدلات تدفق المياه إلى الربع تقريباً.

من جانبه يرى رئيس الاتحاد المحلي للجمعيات الفلاحية التعاونية في كربلاء المقدسة السيد جواد كاظم الكريطي إن عوامل مجتمعة أسهمت في تدمير بساتين كربلاء.

فيقول، "شح المياه وقلة الدعم وإغراءات المال بالإضافة إلى غياب الدعم الحكومي أسباب أسهمت بشكل فاعل في تفتيت معظم بساتين مدينة كربلاء".

مبينا، "أقلق من خطورة الأمر على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والبيئي أيضاً".

ويضيف، "أتأمل خيراً في الإجراءات الإصلاحية التي أقرتها الدولة مؤخّراً".

ويشير رئيس الاتحاد إلى، أن "المشاريع التي أنشأتها العتبات المقدسة هي مشاريع جيدة جداً".

موضحاً، "إنها تعمل بجدية وبإشراف مختصين في الشأن الزراعي، وظهر إنتاجهم في الأسواق وظهر مستوى التطور الزراعي في محافظة كربلاء من خلال مشاريعهم المتطورة".

مديرية زراعة كربلاء

بدوره تعذر على مدير إعلام مديرية زراعة كربلاء المقدسة باهر غالي حصر دقيق لحجم البساتين التي خسرتها المحافظة، إلاّ أنه يتفق على اتساع تلك الظاهرة وما نجم عنها من أضرار.

ألاّ أن آماله لم تتبدد في أن يرى تلك البساتين الغناء مرة أخرى قريباً.

ويكشف غالي بفخر أن محافظة كربلاء تجاوزت جزءاً كبيراً من محنتها الزراعية وباتت في طليعة المحافظات العراقية على صعيد محاربة التصحر.

ويقول، "بالمقابل استطعنا بجهود السلطة المحلية ووزارة الزراعة والعتبتين المقدستين الحسينية والعباسية أن نعوض هذه المساحات التي تمّ استغلالها كمراكز تجارية وسكنية من خلال التوجه إلى الصحراء".

مبينا، "تم زرع أكثر من 200,000 دونم، بالإضافة إلى مجمل الأراضي الزراعية التي أُنشِئت عليها مشاريع زراعية نباتية تصل إلى 500,000 دونم استُغِلّت بزراعة الخضار والمحاصيل الزراعية".

تدخل العتبات المقدسة

من جهتها لم تقف العتبتان المقدستان في المدينة مكتوفة الأيدي إزاء الإشكالية الجارية، إذ بادرت أقسامها الهندسية والزراعية إلى تنفيذ مشاريع مهمة لتدارك الوضع المتدهور.

فيروي السيد محمد علي الأشيقر عضو مجلس إدارة العتبة العباسية المقدسة إن "العتبة المقدسة سعت بكل إمكاناتها لإحياء وتنشيط الزراعة".

مبينا، "الهدف الأساسي للعتبة المقدسة هو المساهمة الفاعلة في توفير الأمن الغذائي للبلد".

ويقول، "جرى تهيئة الأراضي الصحراوية في المدينة بالتزامن مع توفير معدات وطرق حديثة في الزراعة، مثل المرشات الميكانيكية ووسائل التنقيط لتوفير المياه".

ويضيف، "كما بادر القسم الهندسي إلى حفر مجموعة من الآبار لتوفير مصدر مياه سقي جيدة وتم استخدام التقنيات الحديثة مثل الخلايا الشمسية لتوفر الطاقة الكهربائية اللازمة لتشغيل مضخات الآبار والإنارة وغيرها".

ويشير عضو مجلس الإدارة إلى أن "العتبة استعانت بخبرات زراعية وطنية من أبناء البلد لتشغيل هذه المشاريع، وأيضاً حرصت على توظيف أيدٍ عاملة من ملاكات العتبة للعمل على توسعة هذه الأراضي".

ويتابع، "أنشأت العتبة العباسية المقدسة معمل مواد عضوية صديقة للبيئة لتوفير الأسمدة والمبيدات العضوية اللازمة في عملية الزراعة".

ويختتم الأشيقر حديثه، "تسعى العتبة العباسية المقدسة إلى توسعة الرقعة الزراعية والمربعات الخضراء في كربلاء وأيضاً تسعى لتوسعة هذه التجربة في بقية المحافظات إن توفرت الأسباب والظروف المناسبة".

مشاريع زراعية واحزمة خضراء

بدوره يكشف رئيس قسم المشاريع الهندسية في العتبة العباسية المقدسة المهندس ضياء مجيد الصائغ، إن "العمل جار في عدة مشاريع زراعية ضخمة ترفد القطاع الزراعي بمحاصيل إستراتيجية".

ويقول، "مشروع الفردوس ومشروع الساقي ومشروع مزرعة السدر وتنتج محاصيل الحنطة والشعير والتمور وبعض الخضراوات الأساسية".

بدوره أوضح رئيس قسم الحزام الأخضر الجنوبي السيد ناصر حسين متعب، إن "العتبة المقدسة أنجزت مشروع تأهيل الحزام الأخضر الجنوبي، الذي يحيط بمدينة كربلاء المقدّسة من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي بطول (27) كيلو متراً".

مبيناً، "وجّه المتولّي الشرعيّ للعتبة العباسية المقدّسة سماحة السيد أحمد الصافي بتأهيل الحزام الأخضر الشماليّ، الواقع على طريق (كربلاء – بغداد) الجديد بمسافة يبلغ طولها (4) كيلو متر".

ويضيف، "شرعت ملاكات العتبة العباسية بأعمال التأهيل والتشجير وإنشاء الواحات والنافورات والمساحات الخضراء، فضلاً عن زراعة الأشجار المنتجة التي تُسهم في تلطيف المناخ وتعمل أيضاً كمصدٍّ للرياح"، مبيناً أن "نسبة الإنجاز في المشروع وصلت إلى (40) % من مجمل المشروع".

ويتضمن المشروع زراعة واحة خضراء وأكثر من (370) نخلة، فضلًا عن تطوير خط أشجار الكالبتوز وتعزيز المشروع بمنظومة سقي متطورة يتم تزويدها بالمياه عن طريق الأحواض المائية" مشيرًا إلى "اللجوء لحفر الآبار مستقبلًا؛ من أجل توفير المياه بشكل مستمرّ، ومواجهة قلتها خلال موسم الصيف".

في حين كشف مسؤول وحدة التشجير رعد مغيمش حزيران، إن "مجموعة مشاتل الكفيل، أنجزت عملية تشجير مداخل مدينة كربلاء المقدسة وداخل المدينة القديمة".