
كربلاء تتشح بلافتات العزاء
وسط أكداس من الأقمشة متعددة الألوان، لا يبارح حسن ماكينة خياطته إلاّ للضرورة القصوى، فهو عاكف على إتمام تطريز أكبر عدد من اللافتات خلال يوم عمله، ذلك العمل الذي يجبره على المكوث خلف تلك الماكنة لساعات طويلة قد تتجاوز اثنتي عشرة ساعة يومياً.
مردداً وهو منهمك في عمله، "هذه الأكوام من الأقمشة يجب تسليمها لأصحاب المواكب ومجالس العزاء قبل منتصف الليل، فغدا سوف يشيدون مواكبهم في المدينة".
وتجري في مدينة كربلاء المقدسة على قدم وساق استعدادات مكثفة من قبل السلطات الرسمية وإدارة العتبات المقدسة والأهالي أيضا لاستقبال زيارة الأربعين من صفر، تلك الزيارة التي تعد من أكبر التجمعات الدينية في العالم.
وتعد لافتات العزاء التي تتضمن عبارات الحزن والرثاء، أو مقتبسات من أقوال الأئمة الاثني عشر لدى الشيعة، أحد أبرز مظاهر الشعائر الحسينية التي ينظمها المسلمون الشيعة في مدينة كربلاء وأينما حلو في بلدانهم.
ويرى أبو فاطمة الجابري مسؤول موكب عزيز الزهراء عليها السلام إن الراية واللافتات جزء لا يتجزأ من أي موكب حسيني، قائلاً، "من المعالم الرئيسة لكل موكب أو مجلس حسيني هو راية تعلوه تحمل اسم الموكب، وعدد من اللافتات التي تظهر مشاعر الحزن والحداد".
تلك اللافتات لها وقع في نفوس الأهالي والزائرين للمدينة على حد سواء، فيبدي أحمد نايف الذي وفد من مدينة الديوانية جنوب العراق لأداء مراسيم الزيارة تأثره البالغ كلما وقعت عيناه على احدى اللافتات، كما يقول.
موضحاً، "عند قراءة ما تحمله اللافتات من اقتباسات، سواء كانت آيات قرآنية او اقوال للأئمة عليهم السلام، اشعر بأهمية التمسك بالفطرة الإنسانية الصحيحة، تلك الفطرة المبنية على المحبة ونبذ الشرور أو الطمع والجشع أو الكراهية".
مكملاً، "الحياة الكريمة التي أرادها الله عز وجل للبشر تتمثل بالتسامح وطاعة الصالحين والابتعاد كل البعد عما يثير الضغينة والبغضاء بين البشر".
ويختتم نايف، "الحياة مرحلة مؤقتة وزائلة ولا بد من الوقوف إلى جانب الحق والعدل ومواجهة الباطل والجور والدفاع عن المظلوم في كل زمان ومكان كما فعل أئمة الهدى عليهم السلام".
وينتشر في كربلاء عشرات الخياطين المتمرسين في تطريز وخط تلك اللافتات الملونة، فهناك السوداء والخضراء والحمراء والصفراء، ومنها المزركشة والمرصعة ببعض الحلي، وبأحجام وأبعاد مختلفة كالمستطيلة منها والمربعة.
يقول حسن الخياط، "لا يقتصر مقتنو هذه اللافتات على أصحاب المواكب الحسينية أو سرادق العزاء، بل معظم أهالي المدينة يضعون تلك اللافتات على واجهات منازلهم للتعبير عن الحداد، فيما يفضل بعضهم رفع الإعلام أيضا أعلى تلك المنازل".
(أم رسل) إحدى السيدات القاطنات في المدينة القديمة وسط كربلاء منذ طفولتها، تشير إلى أن وضع الأهالي اللافتات ورفعها أعلى منازلهم من التقاليد الأصيلة للسكان.
فتقول، "كانت أمي مع قرب حلول عاشوراء تضع قطعة القماش الأسود المخطوطة بعبارة الحداد على ذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام".
وتضيف، "ذلك التقليد متبع من جميع الأهالي، وهو متوارث جيلا بعد جيل، وكما كانت والدتي قبل وفاتها تحرص على هذا الأمر، أنا وأبنائي لا نتأخر عن ذلك مع كل عاشوراء جديد".
ويظهر أن هذا التقليد المتبع لا يقتصر على مركز مدينة كربلاء حيث تنظم الشعائر، فمعظم المنازل في أحياء المحافظة ترفع تلك اللافتات.
فيما يبدو أن مهنة خياطة وتطريز الرايات كما يطلق عليها في المدينة رائجة بشكل واسع، إذ تنتشر عشرات المحال التجارية التي تمتهن صناعة تطريز الأقمشة الخاصة بالمناسبات الدينية.
فحسب الخياط تحسين الخفاجي فإن هذه الحرفة تتركز في كربلاء أكثر من أي مدينة أخرى، ويوجد العشرات من الخياطين المهرة في هذا المجال.
مبينا، "كثير من الوافدين على المدينة يشترون الرايات واللافتات التي تحمل الشعارات الدينية من كربلاء، كونها تصنع بيد أرفع محترفي فن التطريز، وتستخدم في صناعتها أقمشة وخيوط ممتازة".
مشيراً، "إنها مهنة رائجة ومنتجها بات يصدر إلى مختلف دول العالم، الإسلامية وغيرها من الدول كأوروبا وأمريكا".
بدوره يبين الشيخ علي الأسدي معاون رئيس قسم المعارف الإسلامية في العتبة العباسية إن رفع الرايات واللافتات عرف تاريخي توارثه العرب منذ القدم، ويقصد بها تعبير مرمّز بالألوان عن أحوال من يرفعها.
ويقول، "كان العرب يرفعون الرايات السوداء على قبور الموتى، والرايات الحمراء عند الحرب أو الطلب بالثأر من القتلة، فيما اختص بنو هاشم باللون الأخضر نسبة إلى العمائم التي كانوا يرتدونها في أكثر الأوقات".
ويضيف، "بشكل عام بات التعبير من خلال الإعلام أو اللافتات سمة إنسانية تشمل جميع سكان الأرض، وأصبحت عرفا لدى الدول والمؤسسات وسواها من التجمعات البشرية".
مبيناً، "كل دولة بات لها راية خاصة تسمى بالعلم، وهو عبارة عن هوية بصرية لطبيعة ونظام ومقومات وتاريخ كل دولة".
ويختتم، "هذا العرف الاجتماعي بات ذا صبغة رسمية وإنسانية بالغتي الأهمية بالنسبة للبشر".
وتعلو قبتي الإمام الحسين وأبي الفضل العباس بشكل دائم رايتان حمراوان، إلاّ إنهما يُستبدلان برايتين سوداوين مع حلول شهر محرم الحرام وحتى نهاية شهر صفر من كل عام، تجري خلالهما شعائر خاصة تعرف بشعيرة استبدال الراية.
ولما تنطوي على ذلك التقليد من أهمية، بادرت العتبة العباسية المقدسة منذ سنوات إلى تأسيس شعبة خاصة بالتطريز، يقع على عاتق أفرادها خياطة الرايات واللافتات الكبيرة والصغيرة التي تنتشر داخل الحرم وخارجه.
فيكشف عبد الزهرة داوود سلمان مسؤول شعبة الخياطة في قسم الهدايا والنذور التابع للعتبة العباسية المقدسة، إن "هذه الشعبة تأسست في بادئ الأمر لمهمة واحدة فقط هي خياطة وتطريز الراية التي تعلو قبة أبي الفضل العباس عليه السلام".
مضيفاً، "انطلقت أعمال الشعبة عام 2004، لكن بمرور الوقت تحتم عليها توسيع عملها عبر خياطة اللافتات والرايات التي تنشر داخل الحرم وخارجه".
مبيناً، "كان عدد أفراد الشعبة محدوداً جدّاً، في حين بلغ حالياً أكثر من 32 فنياً يتوزعون بين خياط ومختص تطريز".
ويتابع، "بادرت الشعبة أيضاً إلى تلبية مطالب بعض المتبرعين بخياطة الرايات واللافتات لتوزيعها على المواكب ومجالس العزاء الحسيني مجاناً".