
الساعة الحادية عشر صباحًا، عشرات الآلاف يتجمهرون في مكان محدد، رجال وشباب وصبيان، يتّشحون بالسواد، وبعضهم يعصّب رأسه بقطعة قماش خضراء خُطّ عليها عبارة لبيك يا حسين.
إنّهم يتجهّزون لحدثٍ عظيم، بعضهم يبدأ بترديد هتافات الولاء الحسيني، وآخرون يتلون قصائد تندب أهل بيت النبوة -عليهم السلام-، لاطمين على صدورهم تارة، وتارة يضربون أعلى رؤوسهم بأيديهم.
يبدو أنّ الأمر حزين، كأنهم ينتظرون أمرًا جللا، ومصيبة قد تقع قريبا.
كان المكان عبارة عن تقاطع طرق تتوسطه ساحة نُصِبت وسطها تماثيل ومجسمات للسيدة زينب -عليه السلام- وبعض الأطفال حولها، المجسمات تبدي حجم المعاناة التي مرّت بها هذه السيدة العظيمة، إثر اقتحام جيش عمر بن سعد الأموي مخيم النساء والأطفال، عقب استشهاد رجال معسكر الإمام الحسين -عليه السلام- في واقعة الطف الخالدة.
كانت تلك المجسمات الكلسية تثير الحماسة ومشاعر الحزن والألم في نفوس الحشود المحتشدة في المنطقة، والتي تُسمى بــ(قنطرة السلام)، والتي تقع على مسافة كيلو متر ونصف من المرقدين المطهرين للإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس -عليهما السلام-.
الهدير الحسيني
ما إن انتصفت الشمس فوق رؤوس الحشود، حتى تعالت الصيحات تردّد شعارات الولاء والفداء، بدأت الحشود تتوجه إلى المدينة القديمة، قاصدةً المراقد المقدسة.
كانت الدموع ومشاعر الغضب تمتزج في وجوه الحشود، عبارته الموحدة (واحسيناه).
أحد أفراد الحشود صرخ قائلًا: "لقد سقط الحسين لقد قُتل سبط رسول الله لقد استبيحت الدماء الطاهرة وامصيبتاه".
إنّها الساعة التي استُشهد فيها الإمام الحسين -عليه السلام-، وقت الظهيرة، وتحديدًا عند انتصاف الشمس في مثل هذا اليوم عام 61 للهجرة.
يردد شاب آخر، "لا يوم كيومك يا أبا عبد الله"
كانت الحشود تتزاحم فيما بينها، هناك أعداد كبيرة كانت تتوافد للمشاركة في هذا المسير الهادر صوب المدينة القديمة، فيما اعتلى آخرون البنايات المطلّة على الشارع الذي تقطعه الحشود وبأيديهم خراطيم المياه، يسعون عن طريقها لنثر رذاذ الماء فوق الحشود للتخفيف من وطأة الحرارة.
كانت السلطات المحلية قد ظلّلت جانبًا من الشارع الذي تقطعه الحشود بمظلات، ونُصبت المراوح الهوائية المعززة برذاذ الماء على أعمدة الكهرباء أيضا.
الجميع مهتم بهذه المسيرة وحريص على سلامتهم، ويبدو أنّ الحشود لا تبالي بارتفاع درجات الحرارة أو الاكتظاظ الحاصل، فالجميع لا يضع نصب عينه سوى مصيبة الإمام الحسين -عليه السلام-.
محاولات المنع
تاريخيًّا سعت السلطات البعثية عبر تاريخها القمّعي منع هذه الشعيرة، وقد تمكن من ذلك بضع سنوات قبل أن يعقب سقوطه المدوي عودة تلك الشعيرة بعنفوان أكبر.
يقول كريم العارضي أحد المشاركين في المسيرة، "مرت هذه المراسيم كغيرها من الشعائر الحسينية بمراحل من التقييد والمنع حتى وصل الحال بممارسيها إلى التخفّي وإقامتها بشكل عشوائي خوفًا من تعقب السلطات الحاكمة التي فرضت حظرًا على إقامتها".
مضيفًا، "لم تتردد السلطات البعثية عن تنفيذ الإعدامات الميدانية والسجن والتعذيب بحق الشيعة لمنعهم من أداء هذه الشعيرة".
وتعود (ركضة طويريج) بحسب قول المؤرخ الكربلائي سعيد رشيد زميزم، إلى سنة 1855 ميلادية، وفي رواية أخرى سنة 1872 ميلادية.
مبينا، "عمر هذا العزاء قد ناهز الـ 150 عام".
ويضيف، "مؤسِّس هذا العزاء هو أحد أعيان مدينة كربلاء في قضاء الهندية (طويريج)، الذي كان يدعى ميرزا صالح القزويني".
ويتابع زميزم، "كان القزويني يقيم مجلس عزاء في العشرة الأولى من المحرم الحرام في داره، وبعدها يمتطي جواده مع مجموعة من محبّي أهل البيت عليهم السلام، ويبدؤون بالركض مرددين عبارات ولائية حسينية".
ويوضح، "ما إن شاهد أهالي كربلاء حتى شاركوهم في العزاء، وأصبح تقليدًا ضمن الشعائر الحسينية المقدسة".
وبذلك يشير المؤرخ سعيد زميزم إلى، أنّ "هذه المراسيم استمرت حتى عام 1990م، إلّا أنّه بعد الانتفاضة الشعبانية المباركة عام 1991 فرض نظام البعث القمعي حظرًا تامًّا على إقامتها، لكنّ الأهالي أصرّوا على إقامتها وهو ما دفع أجهزة الأمن الصدامي إلى شنّ حملات اعتقالات وإعدامات على المشاركين فيها".
استعدادات مسبقة
قطعت طليعة الحشود أكثر من كيلو متر ولا تزال بلا نهاية، أعداد كبيرة من الناس التحقت بها، الرايات الحمراء التي انتشرت بأيدي كثير من الشبان خُطَّ عليها عبارات مثل "يا ثار الله" و "لبيك يا حسين".
العتبات المقدسة سبق وأن تهيّأت لهذه الحشود، ونظّمت مسارات خاصة لمرور الحشود بانسيابية وفرشت بوابات العتبات المقدسة بالرمال للحيلولة دون تعثّر أحد بالسلالم المؤدية إلى داخلها، وفرشها بالسجاد.
وتهيأ المئات من المنتسبين للعتبات المقدسة والمتطوعين لتنظيم دخول الحشود دون أن تقع حوادث.
المشهد يوحي بهيبة عظيمة، الجميع يبكي ويلطم بحزن، كانت الحشود تتحمس بشكل أكبر لدى وصولها إلى الأبواب الخاصة بالعتبات المقدسة، وتتزايد سرعة هرولتهم إليها، كأنّهم يسعون لإدراك الإمام الحسين -عليه السلام- قبل مقتله.
إحصاء أعداد الحشود أمر لا يخلو من صعوبة بالغة، يعلّق جسام السعيدي معاون رئيس قسم الإعلام في العتبة العباسية المقدسة، "آلية احتساب عدد زائري ركضة طويريج الكرام، باستخدام منظومة العد الإلكتروني غير ممكنة لأسباب كثيرة، لعل أبرزها طبيعة العزاء التي تفرض اختلافات في السرعة او الزخم مما يؤدي للتغير في عرضه زيادة ونقصاناً، كما ان من يشترك فيه من البداية ليس بالضرورة ان يصل لبين الحرمين، وكثير من المشاركين اما لكبر سنه او لعدم قدرته يشارك بجزء يسير من مسار الركضة، وغيرها من الأمور التي تجعل من عد كل الراكضين امر شبه مستحيل عملياً في الوقت الحالي، لذا نكتفي بعد أكبر واهم جزء فيه وهو ساحة بين الحرمين، وكذا لامكانية ايجاد طريقة تقوم بذلك".
موضحًا، " وفقنا الله لابتكار طريقة عد، وهي آلية صعبة تتطلب تقسيم الركضة لمقاطع زمنية حسب عرض وكثافة وسرعة كل مقطع، وبعد عمليات حسابية وفق معادلات معينة تستغرق 3 الى 4 ساعات، يتم اخراج النتيجة من كل المقاطع ثم جمع نتائج المقاطع، التي تساعد مخططي الخدمات وادارة الحشود، في تقديم اكبر عدد ممكن من الخدمات، ومنطقة العد المنطقة الموجودة بين الحرمين فقط".
مشيرًا، "تستغرق تلك المسيرة (عزاء طويريج) مدة لا تقل عن أربع ساعات، وقد تصل الى خمسة او اكثر، نحصي فيها عدد المشاركين، ونخرج من هذه العملية بنسبة %90 من الدقة لاستحالة وصعوبة العد في كاميرات العد".
مسار الركضة
بعد دخول الحشود إلى مرقد الإمام الحسين وأداء طقوس البيعة والولاء، توجّهوا إلى مرقد أبي الفضل العباس -عليه السلام-، قاطعين جريًا ساحة ما بين الحرمين الشريفين.
تلك الحشود لم تكتفي بهذا، بل تتوجه بعد مغادرتها مرقد أبي الفضل -عليه السلام- إلى مقام المخيم الحسيني، ليشهدوا حرق الخيام.
نُصبت الخيمة الكبيرة في الساحة المقابلة لمقام المخيم الحسيني، كي تُحرق أمام الحشود، في مشهد يستحضر جانبًا من المصيبة التي لحقت بنساء المخيم الحسيني.
وما هي إلّا دقائق، وتعالت ألسنة اللهب في تلك الخيمة، وسط تجمهر الحشود الذين يودون اطفائها بدموعهم.
وبذلك انتهت مراسم "ركضة طويريج"؛ لتُجَدّد في العام القادم.