في زحمة الحياة وصخبها، توجد قصص تُكتب بأيدي أناس عاديين، لكنها تحمل في طياتها معانٍ غير عادية. قصة "الكشوانية" واحدة من تلك القصص التي تُجسد أسمى قيم التواضع والإخلاص، حيث يلتقي الإيمان بالخدمة في أقدس الأماكن.
أبو علي، رجل في الثالثة والأربعين من عمره، تشير ملامحه الى براءة الطفولة وهدوء الحكمة.
يقف في كابينة "الكشوانية" بالعتبة العباسية المقدسة، محاطًا بحشود الزوار الذين يفدون من كل حدب وصوب.
بابتسامة هادئة تلامس القلب، يرحب بهم ويأخذ منهم أحذيتهم ليضعها في مكانها المخصص ويعطي كل واحد منهم رقما يدله على مكان حذائه حين عودته لاستلامه بعد اكمال الزيارة.
يرتدي سترته السوداء بكل أناقة وانضباط، وكأنها رداء شرف يليق بهذا المكان المقدس. منذ ثلاثة عشر عامًا، وهو يخدم الزوار بتفانٍ نادر، يعتبر عمله هذا عبادة تقربه إلى الله.
يقول أبو علي "خدمة زوار الإمام الحسين ليست مجرد عمل، بل هي باب من أبواب التقرب إلى الله.. أشعر أنني محظوظ لكوني في هذا المكان المقدس، حيث ألمس بركة الخدمة في كل لحظة" .
أصل كلمة كشوانيه
تشير بعض الآراء إلى أن كلمة "الكشوانية" قد تكون مشتقة من العبارة الفارسية "كفش بانان"، حيث تعني "كفش" حذاء و"بان" حارس أو مراقب.. وبمرور الزمن، تحولت الكلمة لتناسب اللهجة العراقية فأصبحت "كشوانية" وهي غير مستخدمة الان في مساجد وعتبات ايران.
هذه الخدمة، التي تعتبر من أقدم الخدمات المقدمة في العتبات المقدسة، تجسد أسمى معاني التواضع والإخلاص، حيث يتولى العاملون فيها مهمة حفظ أحذية الزوار والاعتناء بها.
لدى أبو علي قناعة راسخة بأن خدمته ليست مجرد وظيفة، بل هي رسالة تحمل في طياتها معاني الوفاء والتواضع. يقول "نحن نؤمن أن كل زائر يدخل إلى العتبات المقدسة هو ضيف الإمام الحسين وأخيه ابي الفضل العباس عليهما السلام، ومن واجبنا أن نكرمه بكل ما نملك" .
إلى جانب أبو علي، يعمل العشرات من الرجال بتناوب على مدار الساعة، يقدمون خدمتهم بكل تفانٍ.. قد يبدو عملهم بسيطًا للبعض، لكنه يحمل في جوهره معاني عظيمة من التقرب إلى الله.. إنهم خَدَمَة الكشوانية، الذين يضعون أنفسهم في خدمة الزائر، ليستشعروا بركة هذه الخدمة وأجرها الكبير.
يقول المهندس عباس علي أبو العوف، المعاون الإداري لقسم الشؤون الخدمية في الكشوانية "إن القسم يلعب دورًا حيويًا في إنجاح الزيارات، حيث يضمن تقديم التسهيلات اللازمة للزوار والحفاظ على ممتلكاتهم أثناء أدائهم للزيارة".
ويوضح أن أعداد الزوار تختلف بحسب الأيام، ففي أيام الخميس والجمعة يتم استقبال الآلاف من الزوار، بينما تقل الأعداد في الأيام الأخرى.. أما في الزيارات المليونية، فإن التحديات تتضاعف، حيث يصل عدد الأحذية المخزنة إلى عشرات الآلاف.
يكشف المهندس عباس عن طريقة تعامل العاملين مع الزوار الذين ينسون أرقام الكشوانية أو يفقدون بطاقات الاستلام "نحن ملزمون بإيجاد حلول سريعة تمكنهم من استعادة أحذيتهم، حتى في ظل الضغط الهائل".
مواقف تلامس القلب
رغم التحديات اليومية، هناك لحظات تترك أثرًا عميقًا في النفس.. يتذكر أبو علي موقفًا خاصًا مع رجل مسن من إيران "في إحدى الزيارات، جاءني رجل مسن وشكرني بصدق على خدمتي له. كانت كلماته بسيطة، لكنها حفرت في قلبي معنى الخدمة الحقيقية" .
هذه اللحظات تجعل أبو علي يشعر بالفخر والانتماء لهذا المكان المقدس.. يقول "هنا لا فرق بين غني وفقير، بين عربي وأجنبي، بين صغير وكبير.. الجميع متساوون في هذا المكان، ونحن نخدمهم بمحبة خالصة ".
كلمات امتنان
فاطمة، زائرة من منطقة القطيف في المملكة العربية السعودية، قدمت كربلاء رفقة أسرتها، تقول "أشعر بالامتنان لهؤلاء الذين يعملون في الكشوانية ويهتمون بأشيائنا كأنها أشياؤهم الخاصة" .
أما محسن تبريزي، زائر من إيران، فيروي كيف مكّنه العاملون من استعادة حذائه رغم ضياع بطاقة الاستلام "كانوا متفهمين وسريعين في حل المشكلة، مما جعلني أشعر بالامتنان لهؤلاء الأشخاص الرائعين الذين يخدمون الزوار دون تمييز" .
ويختم، أبو علي، الذي خدم في هذا المكان لسنوات طويلة، حديثه بابتسامة مطمئنة "قد لا يعرفني الزائر، وقد لا يتذكرني أحد، لكنني أعلم أن عملي هذا مسجل في مكان أسمى.. نحن هنا لنخدم، لنمنح الزائر راحته، ولنقدم شيئًا بسيطًا، لكنه عند الله عظيم" .
الكشوانية ليست مجرد مكان لحفظ الأحذية، بل هي رمز للخدمة الصادقة والتواضع والتفاني.. إنها مساحة تمكّن، الزوار من دخول العتبة المقدسة بيُسر، وتجعل من العاملين فيها أقرب إلى الله من خلال خدمتهم لزوار الإمام الحسين وأخيه ابي الفضل العباس، عليهما السلام.