image alt

أوجاع في بادوش... رحلة البحث عن العدالة

أوجاع في بادوش... رحلة البحث عن العدالة


في إحدى ليالي الصيف الحارة، جلست الحاجّة أم حيدر في زاوية من زوايا منزلها المتواضع، تتأمّل صورة لابنها حيدر حينما كان طالبًا في الإعدادية برفقة عدد من أصدقائه، بعيون تغمرها الدموع وحنين لا ينتهي.

 كانت الجدران تكتسي بطابع قديم يروي حكايات وذكريات مضت ولن تعود، وكأنّ صورًا لمواقف ليست بعيدة تتراءى أمامها، فتزيدها شعورًا بالوحشة والألم.

الهواء كان يحمل رائحة العشب الجاف مختلطًا برائحة الزهور الذابلة في الفناء، يلفح وجهها، فتتداخل مشاعر الحزن والحنين في قلبها.

وهي تقلب صورة ولدها المفقود، تتجدد ذكرياتها معه، ويغمرها الألم لفقدانه، رغم ذلك، يبقى الأمل في قلبها خافتًا، كخيط رفيع يربطها به، حتى وإن كانت الأيام قد أثقلت كاهلها بالشكوك.

حيدر شاب طموح ونبيل، لكن في لحظة ضعف مفاجئة انحدرت حياته بشكل محزن، وجد نفسه متورطًا في ظروف خارجة عن إرادته. قادته تلك الظروف إلى سجن (بادوش).

هذا السجن يقع قرب بلدة (بادوش) إلى الغرب من محافظة الموصل، 400 كم إلى الشمال من العاصمة العراقية بغداد، وكان ثاني أكبر سجن في العراق بعد سجن (أبو غريب)، بُني في عام 1979.

في صيف 2014، استيقظ العراقيون على حدث بالغ الجسامة هزّ العراق من أقصاه إلى أقصاه، إذ اجتاحت مجاميع إرهابية مسلحة محافظة الموصل، ووصلت إلى سجن (بادوش).

في السجن كان المئات من السجناء وعدد غير قليل من الأشخاص الإداريين وحراس السجن، صنفتهم العناصر المسلحة بعد اجتياحه عِرقيا ودينيا وطائفيا، وأجهزت على الشيعة منهم وكان عددهم لا يقل عن 600 شخص.

وانقطعت أخبار حيدر، واختفى أثره كما اختفى أثر مئات غيره، أمّا أمّه، فظلّت تعيش على أمل اللقاء، تتمنى أن يكون قد نجا أو تمكن من الهروب من قبضة المسلحين، وفي بعض الأحيان، تواسي نفسها بتخيّل نجاته بفضل مسلح تعاطف معه، إكرامًا لها أو لعائلته.

لكنّ أفعال الجماعات المسلحة وما ارتكبوه من جرائم تؤكد دون شك أنهم لا يعرفون الرحمة، ولا يمكنهم أن يتعاطفوا مع حيدر أو غيره.

 وبعد سنوات، عثرت السلطات على مقابر جماعية ضمت رفاة المئات من سجناء (بادوش)، وكشفت التحقيقات أنهم قُتلوا ثم أُحرِقوا، وتُركت جثثهم في العراء لعدة أيام، تعبث بها كواسر البر دون أن يرحمهم أحد.

وشرع المركز العراقي لتوثيق جرائم التطرف، التابع إلى قسم الشؤون الفكرية في العتبة العباسية المقدسة، بجمع البيانات الخاصة بالجريمة.

مدير المركز الدكتور عباس القريشي، يصف ما حدث "بجريمة حرب فظيعة". فتلك الفعلة المروعة غيرت حياة مئات الأسر العراقية إلى الأبد، حينما اختفى بعض أبنائها بشكل قسري.

بينما كانت ملاكات المركز تعمل بلا كلل لجمع الأدلة والشهادات، نجح الدكتور عباس القريشي في تحقيق خطوة هامة بالتنسيق مع سماحة المتولي الشرعي للعتبة العباسية المقدسة السيد أحمد الصافي.

أخيرًا تم تخصيص 2000 متر مربع في مقبرة النجف الأشرف لدفن رفاة المغدورين من سجناء (بادوش).

في أواخر 2023، نظم المركز العراقي أولى عمليات دفن رفات ضحايا سجن (بادوش) في مقبرة النجف الأشرف، وكان التشييع مهيبًا، حضره كبار المسؤولين وممثلو الأمم المتحدة.

 "هنا سيجدون الراحة أخيرًا"، قال أحد المشيعين.

وأضاف بحزن" تلك الأرض ملاذًا أخيرًا لضحايا جريمة لا تُنسى".

ويعلق الدكتور القريشي، "دُفِن الضحايا في مقبرة (روضة جنة الكفيل) ليكونوا شهودًا على الجرائم التي ارتُكبت بحق الإنسانية".

كان أمله، أن تسهم هذه الجهود في نشر الوعي بأهمية احترام حق الحياة لكلّ فرد، بغض النظر عن انتماءاته العرقية والدينية، لتوجّه رسالة قوية للجميع تُدين التعدّي على حقّ الآخر في الحياة، والأمن، والسلامة.

لم يتوقف دور المركز عند هذا الحد، بل عمل جادًّا على اطلاع المجتمع الدولي على الانتهاكات المروعة التي ارتكبتها الجماعات الإرهابية بحق العراقيين لأسباب طائفية وعرقية.

مستثمرا المؤتمرات والمعارض الفنية الدولية، وتم تعيين محام لتبني قضايا المطالبة بالحقوق المدنية والتعويضات الخاصة بالضحايا وذويهم، لاسيما أنّ الكثير من الضحايا سُجّلوا في لائحة المفقودين ولم يحصل أهلهم على الحقوق التي كفلتها التشريعات المحلية المعنية.

كانت جثة حيدر من بين الوجبة الأولى التي دُفنت في (مقبرة روضة جنة الكفيل)، تلك المقبرة التي أصبحت ملاذًا لرفات الأبرياء الذين لا ذنب لهم سوى أنهم كانوا هدفًا لجرائم لا تُغتفر.

تلقّت أمه الخبر كالصاعقة، وانقطع خيط الأمل الذي تشبثت به لسنوات طويلة، ولم يعد لها سوى الذكريات، التي أصبحت تؤلمها أكثر من أي وقت مضى.

"كلّ ليلة، كنت أسمع صدى صوته يناديني ... كان الأمل الوحيد الذي يبقي نبض قلبي".

همست لنفسها وهي تجلس في صمت مطبق، وعيناها تحدقان في الفراغ، كأنها تبحث عن جزء من حيدر في كل زاوية من حياتها التي فقدت معناها.

ولكن رغم الألم، كان هناك شعور آخر يرافق حزنها، فكانت ممتنة، رغم كل شيء، للجهود التي بذلها المركز العراقي، الذي عمل بجد لإعادة رفاة ولدها وكشف مصيره.

"على الأقل الآن أعرف... على الأقل أصبح لدي جزء من الحقيقة" قالت وهي تهمس بصوت يكاد يختنق.

أمّا في أعماق قلبها، فكانت تسأل نفسها، "هل سيحصل حيدر على العدالة التي يستحقها"؟

 كانت تراقب عن كثب المحاولات الجادة للقائمين على المركز، ممن كانوا يسعون جاهدين لإنصاف الضحايا وكشف الجناة.

"آمل أن يتم تقديمهم للعدالة"، فكرت، رغم أن اليأس كان يتسلل إلى قلبها المرهق.