فيما يتسارع إيقاع الحياة بشكل غير مسبوق في عالم اليوم وتتقلص فيه مساحة اهتمام الناس بالكتاب الورقي لصالح الاهتمام بالقراءة الرقمية، بل لصالح التصفح الرقمي غير المثمر غالبًا، يبرز مركز الدراسات والمراجع التابع لقسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة كخط دفاع ثقافي.
يعمل المركز على تعزيز أهميّة القراءة الورقية عبر إصدارات متنوعة وفعاليات مبتكرة تستهدف استعادة اهتمام الشباب بالكتاب المطبوع والسعي لتجسير الفجوة الواسعة بينهما.
جيلٌ بين الكتاب والشاشة
هناك إجماع على أنّ الجيل الحالي يعاني من تراجع الاهتمام بالقراءة الورقية، إذ تسيطر الأجهزة الذكية على أوقات الشباب وتقدم لهم مصادر إلكترونية غالبًا ما تفتقر إلى الدقة والفكرة الجادة المثمرة، بيد أنّها تستهويهم بأساليب عرض حديثة.
ولكن، حسن الجوادي، مدير مركز الدراسات والمراجع، في العتبة العباسية المقدسة يرى أنّ الكتاب الورقي ليس مجرد وسيلة للقراءة، بل هو رابط بين الأجيال وتراثٌ يحمل معارف وقيمًا لا تُقدر بثمن، ويؤكد على أهمية اقتناء الشباب للكتب الرصينة والحرص على مطالعتها.
يصف الجوادي، المركز بأنه" ركن فني وثقافي يعزز التواصل بين الأجيال بإصدارات متنوعة تسهم في نشر الفكر والثقافة وخصوصا ما تعلق منها بتاريخ أهل البيت -عليهم السلام- وتراثهم".
إصدارات غنية وثقافة متجددة
منذ تأسيسه كقسم ناشئ في 2008 وحتى اليوم، أصدر المركز أكثر من 300 عنوان، من بينها " سلسلة بناء الشخصية الناجحة، موسوعة الشيخ المظفر، وموسوعة إعراب نهج البلاغة"، وبعض هذه الإصدارات قد أعيدت طباعتها عدة مرات تلبية للإقبال عليها.
بالإضافة إلى مجلات دورية مثل "ذاكرة الأرشيف، وأوراق معرفية". ويتطلع المركز عن طريق هذه الإصدارات إلى توفير محتوى ثري ومُحقق يعزز الوعي الثقافي ويواجه تيارات المعرفة السطحية المنتشرة في المحتوى الرقمي.
يتكون المركز من وحدة تعنى بالتأليف والكتب والإصدارات المتنوعة، بالإضافة الى وحدة النشرات المسؤولة عن إصدار نشرتي "الخميس والكفيل " وهما من أقدم النشرات في العتبات الدينية المقدسة.
تقنيات جذب القارئ
لم يكتفِ المركز بالنشر فقط، بل طوّر استراتيجيات متعددة لجذب الشباب إلى القراءة، وهذا هو التحدي الأصعب الذي يواجه المركز، ومن بين هذه الأساليب هو استخدام المقالات المختصرة لجذب الانتباه إلى الكتب، إضافةً إلى عقد محاضرات وورش عمل داخل العراق وخارجه لتعريف الجمهور بمحتوى الإصدارات.
كما يستفيد المركز من المناسبات الكبرى، مثل زيارة الأربعين، التي تتوافد فيها أعداد كبيرة من الزوار إلى مدينة كربلاء، لتوزيع الإصدارات مجانًا أو بأسعار رمزية، مع تقديم الهدايا التشجيعية.
يوضح الجوادي، أنّ "المركز يعتمد أيضًا على المسابقات الثقافية، إذ يطلب من المشاركين قراءة كتاب محدد ومن ثم الإجابة عن أسئلة تتعلق بمحتواه".
ويصف هذا الأسلوب بأنّه أكثر فاعلية في جذب القرّاء وتشجيعهم على اقتناء الكتب والمشاركة في تعزيز ثقافة المطالعة.
لماذا الورق؟
مع شيوع المحتوى الرقمي وسهولة الوصول إليه، يظل السؤال، لماذا الإصرار على الكتاب الورقي؟
عقيل الياسري، رئيس قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية، يجيب" الكتاب الورقي يتميز بقدرته على تعزيز التركيز العميق وتقليل التشتت الناتج عن الإشعارات الإلكترونية".
ويعتقد أنّه يمثل قيمة ثقافية إضافية، إذ يحافظ على التراث المعرفي ويتيح فرصة للشباب للتفاعل مع محتوى أصيل ومحقق.
بيئة للتفاعل الثقافي
لا يقتصر دور المركز على توفير الكتب، بل يسعى لخلق بيئة ثقافية تفاعلية بتنظيمه فعاليات وأنشطة ذات طابع ثقافي، مثل النقاشات والندوات، التي تجمع الشباب حول مواضيع فكرية متنوعة.
يرى الياسري أنّ هذه النقاشات تعزز التفكير النقدي وتشجع الشباب على البحث عن مصادر موثوقة، بعيدًا عن الاعتماد الكلي على الإنترنت.
ويضيف" الأنشطة الثقافية والقراءة الورقية تساعد الشباب على استغلال أوقات فراغهم بشكل مثمر، وتوفر بديلًا صحيًا عن الأجهزة الرقمية، مما يعزز سلامة العينين ويحسن القدرة على التركيز".
قراءة بين التراث والتكنولوجيا
في الوقت الذي يشهد العالم ازدهارًا رقميًا، يظل مركز الدراسات والمراجع ملتزمًا بدوره في الحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيز القراءة الورقية، كما يسعى إلى الدمج بين التراث والتكنولوجيا بتقديم محتوى ثقافي عميق يمكن أنْ يُنقل إلى الأجيال القادمة.
لكنّ المهمة لا تبدو سهلة، فرغم الجهود المبذولة، يبقى تحدي منافسة المحتوى الرقمي سريع الانتشار، هاجسا يؤرق العاملين على استعادة مكانة الإصدارات الورقية.
لكنّ، حسن الجوادي، يرى أنّ العزيمة والإبداع هما السلاحان الأساسيان في هذه المعركة، إذ يقول، "نسعى لجعل القراءة الورقية جزءًا من حياة الشباب، ليس فقط كوسيلة للمعرفة، بل كجزء من هويتهم الثقافية".
وفي هذا العالم المليء بتحديات المحتوى السطحي الشاغل لمعظم أوقات الشباب وبما يشكل شخصياتهم بطريقة لا تناسب الموروث الأخلاقي والعقائدي غالبا.
هناك من يعمل بجد ليظل الكتاب الورقي نافذة تطل على عوالم المعرفة الحقيقية، يقف وراءها مركز الدراسات والمراجع كحصنٍ منيع، يجهد لحماية التراث وتعزيز مستقبل القراءة في مجتمع يشهد تحولات سريعة.