image alt

أملا في انقاذ ما تبقى

أملا في انقاذ ما تبقى

جهود حثيثة لإنعاش المخطوطات الإسلامية




بشغف وإصرار يجهد فريق فني متخصص في تدارك ما تبقى من إرث نادر وثمين لتاريخ اتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام من المسلمين الشيعة، ذلك الإرث الذي تعرض لقرون متتالية للتنكيل والتدمير وضياع جزء كبير من مكوناته.

فوسط مدينة كربلاء المقدسة وفي إحدى وحدات مركز الفضل لترميم المخطوطات الذي أنشأته الأمانة العامة للعتبة العباسية المطهرة، يسعى جملة من المختصين إلى إعادة بعض الوثائق التاريخية إلى الحياة بعد أن نال منها الإهمال وغياب العناية اللازمة.

ويعد هذا المركز من المؤسسات النادرة والفريدة من نوعها على صعيد دولة العراق، كونه يضم من الخبرات والمعدات رفيعة المستوى التي انفرد بها عن سواه من المراكز القليلة الأخرى في البلاد.

فقد نجح المركز خلال فترة وجيزة لا تتعدى بضع سنوات من ترميم وحفظ الآلاف من المخطوطات التاريخية المهمة التي كانت على وشك التلف بسبب افتقار مقتنيها السابقين لمستلزمات الحماية المفترضة.

معدات فنية متطورة

يقول ليث لطفي مدير مركز ترميم المخطوطات، "أعدت الأمانة العامة للعتبة العباسية كافة مستلزمات النهوض بهذا الشأن لما له من أهمية كبرى على صعيد التراث الإسلامي".

مبينا، "جرى استيراد أجهزة فنية متطورة خاصة بفحص وترميم ومعالجة المخطوطات التاريخية من منشأ أوروبي رفيع المستوى".

وبحسب لطفي، فقد استوردت العتبة المقدسة تلك الأجهزة من دول أجنبية ذات باع في شؤون الآثار والتراث الانساني، فضلا عن إشراك منتسبي المركز بدورات وورش تدريبية وتأهيلية متقدمة خارج العراق".

ويضم المركز ستة أقسام رئيسة تتفرع منها عدة وحدات، وهي المختبر البيولوجيّ، والمختبر الكيمياوي، وقسم الترميم، وقسم الأعمال الفنيّة والزخرفة، بالإضافة إلى خزانة المخطوطات، وقسم صناعة الغلاف اللاكي (المزجج) والجلد المنقوش.

بدوره يبين علي محمد جاسم معاون مدير المركز أن "منشأ الأجهزة الفنية التي جرى استيرادها من دول المانيا وبولندا والتشيك واليابان إلى جانب بعض الأجهزة من الولايات المتحدة الأمريكية".

وأبرز معدات المركز الذي يصطلح عليه بمسمى (مشفى المخطوطات والوثائق التاريخية)، جهازان لصب العجينة، ويستخدمان في فتح الكتب الملتصقة وتعديل الأوراق والرقوق الجلدية والترميم بالعجينة، وهما من منشأ أوروبي.

وأيضا جهاز قياس الحموضة فرنسي المنشأ، وجهاز أوتوكليف لتعقيم الوسائط الزرعية صيني المنشأ، إلى جانب جهاز حماية الورق والمخطوطات عبر كبس الورق، وهو ألماني المنشأ، بالإضافة إلى جهازي الفرن والحاضنة من النرويج، والذي يستخدم في المختبر البيولوجي، فضلا عن أجهزة متنوعة كالمجاهر الإلكترونية وجهاز الحمام المائي والجهاز المسخن وغيرها من المعدات الفنية الدقيقة.

تدريب الملاكات ومشاركة الخبرات

إلى ذلك عمد المركز إلى تدريب ملاكاته في أرفع المؤسسات الدولية المختصة بشؤون الآثار والتراث الإنساني، بالتعاون مع مراكز وجامعات مرموقة في أكثر من دولة رائدة في هذا المجال.

ويبلغ عدد منتسبي المركز 22 منتسبا، ينقسمون بين فنيي القسم البيولوجي والقسم الكيميائي والقسم الفيزيائي.

إذ اشترك فنيو المركز بعدة دورات تدريبية تخصصية في جمهورية التشيك، بواقع دورتين بين عامي 2009- 2013، إلى جانب عدة دورات في جمهورية إيران الإسلامية وتخصصوا بمجالي الفن والزخرفة، بالإضافة إلى عدة دورات مستمرة لمواكبة تطورات علوم المخطوطات دوليا.

وفي عام 2018 استضاف المركز أستاذين مختصين في المخطوطات من جمهورية مصر العربية، لعقد دورة تدريبية علمية.

وقد أسهمت تلك الورش والدورات التدريبية بشكل فعال في تطوير وتعزيز مهارات فنيي المركز الامر الذي دعا ادارته إلى مشاركة تلك المهارات مع العديد من المؤسسات الرسمية العراقية.

فنظم المركز عدة دورات تدريبية لملاكات بعض المكتبات والوزارات والجامعات، مثل دار الكتب والوثائق العراقية، ودائرة المخطوطات العراقية، ومؤسسة الشهداء لتوثيق جرائم البعث، وديوان الوقف السني، وهيئة المسائلة والعدالة، ووزارة الدفاع، وعدد من أصحاب المكتبات التاريخية في مدينة النجف الاشرف.

وشمل برنامج مشاركة الخبرات الذي وضعه المركز في خدمة المؤسسات التراثية تنظيم ورشات عمل في العديد من الجامعات، كجامعة بغداد والجامعة المستنصرية وجامعة بابل وجامعة ذي قار وجامعة البصرة.

في حين سبق للمركز أن أبرم اتفاقية تعاون مع وزارة الثقافة والسياحة والآثار العراقية اتفاقية تعاون بهدف تدريب ملاكات الأخيرة.

وأخيرا وليس آخرا.. دورة تدريبية لملاكات مركز العترة الطاهرة في دولة الكويت في سنة 2023.

عمليات إنعاش المخطوطات

وتتم عملية صيانة المخطوطات ضمن سلسلة معقدة من المراحل العلاجية، تبدأ بالمرحلة الأولى في المختبر البيولوجي، ويجري خلالها فحص المخطوطات لتبيان وضع إصابتها بالفطريات أو الحشرات.

وتتم هذه العملية بأخذ مسحة من المخطوطة قبل أن يتم تحضير أوساط زرعية خاصة تزرع وتبقى في جهاز الحاضنة لمدة 48 ساعة، مع توفير درجات الحرارة المناسبة لنمو الفطريات على الوسط الزرعي لتبين نوع وعمق الإصابة التي تعرضت لها المخطوطة.

ويعقب ذلك إدخال المخطوطة في جهاز التعقيم لمدة 72 ساعة، قبل إجراء فحص ثان لمعرفة مكونات ألياف الأوراق المستخدمة إن كانت من القطن أو الخشب أو الكتان، بعدها يجرى فحص نوع الغلاف المستخدم في تجليد المخطوطة.

بعد ذلك تنقل المخطوطة إلى المختبر الكيميائي، لإجراء فحص الأحبار ونوعها وثباتها على الأوراق، وأيضا فحص درجة حموضة الأوراق، وأيضا تحضير المواد اللاصقة وأصباغ الايزو.

وأخيرا تبدأ المرحلة الأولى من أعمال قسم الترميم، ويتضمن عملية التوثيق الصوري والتحريري للأضرار، يشرع بعملية فتح الاوراق وعملية التنظيف وإزالة اللواصق الموجودة، وإزالة الترميم القديم إن كان يضر بالأوراق، بعدها يشرع بعمليات الترميم، حسب توصيات الكيميائي إن كان الترميم بالورق الياباني أو الترميم بالعجينة.

بعدها تتم عملية جمع الملازم والخياطة إن كان الجلد القديم يتحمل الترميم وأما إن كان لا يتحمل الترميم نحضر له غلافا جديدا يسمى بغلاف (اللاكي المزجج) ويعتمد على الحقبة الزمنية التي كتبت بها المخطوطة لتكون النتيجة مشابهة لها.

وتحرص إدارة المركز على حفظ المخطوطات بيئيا في خزانة العتبة العباسية المقدسة.

اذ يحافظ عليها وسط درجات حرارة ورطوبة تحت السيطرة، في دواليب معدنية خالية من الشبابيك، بالإضافة إلى خضوع المخطوطات لمراقبة دورية.

أثمن المخطوطات

إلى ذلك يكشف معاون مدير المركز الأستاذ علي محمد جاسم عن اقتناء خزانة العتبة العباسية المقدسة العديد من النفائس النادرة، والتي تتضمن مخطوطات لا تقدر بثمن، إلى جانب أنفس أنواع المصاحف الشريفة، مخطوطة على الرق كمصحف الامام السجاد عليه السلام.

وبحسب جاسم، فقد خُطت أحرف المصحف بلا تنقيط وبحبر أسود اللون، يعود تاريخه إلى القرن الثاني للهجرة، وينسبه المختصون إلى الإمام السجاد عليه السلام.

ويضم المصحف الشريف ست عشرة ورقة من رق الغزال.

ووجد المصحف ضمن مقتنيات العتبة العباسية المقدسة عام 2003، ويقدر الخبراء عمر المصحف أكثر من 1300 عام.

مصحف نادر

بدوره يبين أستاذ علوم الأحياء المجهرية لطيف عبد الزهرة، والذي قضى أكثر من اثني عشر عاما في العمل على حفظ التراث والارشيف الوثائقي بالعتبة العباسية المقدسة أن "المركز تمكن من إنقاذ مصحف تاريخي يناهز عمره خمسة قرون"، موضحا بأن "المصحف عانى بسبب عدم الاهتمام حتى أن بعض أوراقه مفقودة".

ويقول، "المصحف مذهب ومزخرف وملون، ويعود عمره من أربعة إلى خمسة قرون، كان يعاني من التآكل بالأطراف والتكسر والشقوق والتقديم والتأخير بالأوراق".

ويتابع، "كما كانت توجد لواصق مضرة بالمخطوطة استخدموها سابقا لمعالجة تشققات المخطوطة ولكن اسلوبهم غير علمي وقد أضر بالمخطوطة".

وخضع المصحف لعملية الإنعاش والترميم بدءاً من ترتيب السور والآيات بالتسلسل القرآني، موثقة بالتصوير الأولي، لتبدأ عملية التنظيف من الأتربة وفضلات الحشرات واللواصق".

ويستخدم جهاز البخار والأمواج فوق الصوتية لرفع اللواصق.

وبعد معالجة الشقوق ودعم الأوراق المتكسرة باستخدام طريقة الورق الياباني حسب الوزن الذي يناسب الورقة الأصلية، جهز المصحف لمرحلة الخياطة والتغليف.

ويشير عبد الزهرة إلى، أن "المصحف كان بلا غلاف".

مبينا بأنه "أنشئ للمصحف غلاف مناسب مزخرف ومزجج يحتوي على صمغ حيواني وخامة مناسبة للكارتون الارشيفي القاعدي لكيلا يسبب ضررا للمخطوطة".

ويختتم، "وأخيرا تم صناعة علبة للحفظ تصنع من قماش أرشيفي وجلد طبيعي وكارتون قاعدي وبأصماغ طبيعية  أو أرشيفية".

كتاب الميرزا الشيرازي

كما يحوي المركز قطعة مخطوطة نفيسة يعود تاريخها إلى القرن الثالث عشر الميلادي، وهي كتاب الميرزا محمد بن علي أحمد الشيرازي، والذي يضم مسألتين في القصر والتمام، والثاني رسالة في حال محمد بن سنان، والثالث كتاب الصوم، والرابع سؤال وجواب، والخامس الهدية الرضوية، والجزء الخامس من الكتاب مكتوب بخط المؤلف، كما تضم صفحات الكتاب تعليقات وهوامش لعبد الحميد الفاهاني.

وبحسب مدير قسم الترميم في المركز لطيف عبد الزهرة فقد "عانت المخطوطة من تقشر في الغلاف وتآكل بالأطراف، بالإضافة إلى الأجزاء المفقودة".

 ويتابع، "الأوراق تعاني من التكسر وفقدان بعض أجزائها، فضلا عن الرطوبة التي تعاني منها كسائر المخطوطات.

ويوضح، "وأسوة بجميع المخطوطات النادرة خضع الكتاب إلى مراحل العلاج الرباعية، وتضمنت استخدام الورق الياباني وزن 32 غراما ووزن 5غرامات للترميم، واستخدام الخيوط القطنية المدعمة بالأشرطة".

مختتما، "جرى ترميم الغلاف المصنوع من جلد الماعز باستخدام جلد ماعز جديد".

وتكشف بيانات متداولة أن المركز يضم المئات من المخطوطات النادرة والنفيسة التي تبنى ترميمها، ويجري عرض بعض منها في متحف الكفيل التابع للعتبة العباسية المقدسة.

مبنى خاص

وبحسب قسم المشاريع الهندسية في العتبة العباسية، فان العمل جار على تشييد مكتبة ودار للمخطوطات، كاشفا عن وصول نسبة الإنجاز إلى ما يقارب (35) بالمئة.

يقول المهندس المقيم في المشروع مصطفى المنكوشي، إنّ "المكان المخصص لمكتبة ودار المخطوطات يقع في منطقة باب الخان بمدينة كربلاء المقدسة". مبينا بأنه قد "روعي في البناء مطابقة المواصفات المعمول بها عالميًا".

ويضيف، "يضم المبنى تسعة طوابق وسردابا".

الأهمية والجدوى

من جهته يعزو المؤرخ العراقي سعيد رشيد زميزم إلى تعمد الإهمال الذي كانت تمارسه السلطات السابقة التي حكمت قبضتها على العراق، وكان ذلك سببا رئيسا في ضياع ودمار الكثير من التراث الإنساني الخاص بالمسلمين الشيعة عموما، مستشهدا في الوقت ذاته بالهجمات البربرية التي تعرضت إليها مدينة كربلاء المقدسة، وما أسفر عن ذلك من ضياع وثائق ومقتنيات بالغة الأهمية.

فيقول زميزم، "الكثير من التراث الشيعي تمت إضاعته بسبب الهجمات العشرة التاريخية التي تعرضت لها كربلاء".

مشيرا إلى، أن "العتبتين الحسينية والعباسية كانتا تحويان آلافا من المخطوطات التي جرى حرقها أو سرقتها".

ويتابع، "كما تسبب الإهمال والتقصير المتعمد في تلف المخطوطات والآثار الشيعية".

ويرى زميزم أن الجهد الذي تبذله ادارتي العتبتين المقدستين الحسينية والعباسية في إحياء التاريخ مهم جدا.

ويقول، "شيدت العتبتان مركزين مهمين على المستوى الدولي، وأنا اثني عليهم لدعمهم ونحن العراقيين مخطوطاتنا هي أمانة في اعناقنا".

ويوجه المؤرخ التاريخي سعيد زمام دعوته إلى، "إحياء تراث أهل البيت عليهم السلام".

مطالبا، "كل من يحوز مخطوطة ببيعها أو إهدائها إلى العتبات المقدسة".

داعيا في الوقت ذاته "الدولة إلى الاهتمام بالتراث والتاريخ العراقي وعدم اهماله".