تجربة متحفية في كربلاء
بقبضة محكمة، وضربات قاصمة كان "نادر شاه" يشق الصفوف المتراصة للأعداء ذهاباً وإياباً، فما أن يلوح بسيفه الشهير المرصع بالدر والياقوت حتى يلقى في قلب من يقف أمامه الرعب والخذلان، قبل أن يحدد مصيره المحتوم، إما مضرجاً بدمائه صريعاً، أو مدبراً لائذاً بالفرار من معركة حامية الوطيس بلغت في ذروتها القلوب الحناجر، قبل أن يعلن الشاه انتصاره المنجز.
تلك المعركة التي استمرت لساعات، اختزلها محمد حيدر في ثوان، وهو يتمعن بسيف "نادر شاه" المعروض وسط متحف الكفيل في العتبة العباسية المقدسة.
إذ يعد هذا السيف الفريد أحد مقتنيات المتحف التاريخية التي لا تقدر بثمن، خصوصاً إنها تختزل في مكنوناتها حقبا زمنية بالغة الأهمية، وتمثل شواهد عينية لحواضر وثقافات أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
وحيدر هو مواطن من الجنسية السورية، وفد إلى مدينة كربلاء لزيارة العتبات المقدسة، وصادف أن تجول في متحف الكفيل للاطلاع على معروضاته.
فيقول: "تختلط مشاعري وأنا أطلع على هذه المقتنيات التاريخية بين دهشة وحزن ومسرة".
مبيناً: "تجسدت في مخيلتي وأنا أشاهد سيف نادر شاه واقرأ بطاقته التعريفية مشاهد من إحدى معاركه".
و"نادر شاه" الملقب "نادر العبد شاه فارس" الذي ولد في خراسان أحد أهم القادة الشيعة في القرن الثامن عشر، وحكم أجزاء كبيرة من إيران، وخاض عدة معارك وصراعات عسكرية قبل أن يُغتال في فتح آباد، وسجلت بحقه الكثير من المناقب خلال مسيرته التي يشار لها بالبنان.
ومتحف الكفيل للنفائس والمخطوطات هو أحد الأقسام الثقافية في العتبة العباسية المقدسة، ويقع مقره جوار باب القبلة داخل الصحن الشريف من الجانب الأيمن، ويضم العديد من المقتنيات التاريخية.
يقول محمد حيدر، "أُصبت بالانبهار كوني أرى العناية الفائقة بهذه المقتنيات التاريخية وطريقة عرضها، فيما أشعر بالحزن لتبدد جزء كبير من تراث المسلمين الشيعة بسبب الظروف التي عانوا منها، في حين غمرني السرور وأنا أرى أول متحف متخصص بتراث أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام".
ويضيف، "مع الأسف الشديد تم طمس معالم كثير من القادة والفرسان والحكام الشيعة على مر التاريخ، مما سبب قطعاً زمنياً بيننا وبينهم".
مردداً: "لولا أنني اليوم أطلع على هذه القطع التاريخية لما كنت عرفت هذه الشخصية المهمة طيلة سنوات عمري".
ويشير الزائر السوري محمد حيدر إلى أن "هناك ضرورة ملحة للتعريف بثقافتنا الشيعية لكل العالم".
مستدركاً: "ذلك لن يحصل إلا من خلال عرض تراث آل بيت النبي صلوات الله وسلامه عليهم".
ويحتضن متحف الكفيل المئات وأحياناً آلاف الزائرين يومياً الراغبين في الاطلاع على محتوياته من النفائس النادرة.
إذ يشكل الأعم الأعظم من زواره ممن يقصدون مقام أبي الفضل العباس عليه السلام من داخل وخارج العراق.
وكما يبدو إن أغلب زوار المتحف يشتركون مع "محمد حيدر" على صعيد المشاعر والرغبة.
فيبدي الزائر "محمد حمزة" الذي وفد من محافظة ذي قار، إعجابه بالمعروضات معلقاً، "أشعر بالفخر والسرور وأنا أرى هذه النفائس التاريخية".
مشيراً، "أرى في تلك المعروضات تاريخ آبائي وتراثي وهويتي التي حاول بعض الطغاة طمسها على مر التاريخ".
ويضيف، "بعض المعروضات تعكس أوجها من الثقافة والعلم والحضارة المتقدمة للمسلمين الشيعة إلى جانب تاريخهم البطولي على صعيد الحروب".
مبيناً: "أعجبتني قطع السجاد الفاخرة التي صنعت قبل مئات السنين، إلى جانب بعض الزجاجيات التي صنعت بفن وطراز رفيع انقرض في الوقت الحالي".
مختتماً، "كنت أتمنى أن يكون لدينا متحف بمساحة أكبر فأنا متأكد إن هناك الآلاف من القطع النادرة ما تزال غير معروضة".
فقدان جزء كبير
إلى ذلك يرى معظم خبراء الشؤون التراثية والآثارية إن مدينة كربلاء فقدت جزءاً كبيراً من مقتنياتها التاريخية بسبب الحروب والمعارك وبعض الغزوات مطلع العصر الحديث، إلى جانب إهمال السلطات الحاكمة في تلك الحقب الزمنية.
فيقول الباحث عباس سلطان، إن "كربلاء تعرضت للغزو بشكل متكرر طيلة تاريخها، مما أسفر عن فقدان جزء كبير من تراثها المادي".
ويضيف، "بدأت تلك الحملات منذ العهد العباسي واستمرت خلال الاحتلال العثماني، فيما اختتمت قريباً في العهد البعثي عندما استباحها النظام البعثي عام 1991".
لافتاً، "بعض تلك المقتنيات نقلت إلى السعودية وتركيا بعد نهبها خلال حملات غزو المدينة".
ويرجح الباحث سلطان إن "عددا محدودا من المؤمنين نجح في حفظ بعض المقتنيات بشكل شخصي والتي نراها حالياً في المتحف".
بدوره يرى الخبير الآثاري عباس حمودي مهدي الضرورة تحتم إنشاء متحف في كربلاء المقدسة يجمع كل تراث وآثار المدينة.
فيقول، "علم المتاحف له أصول وتنظيم وزوايا ورؤية، وهو اختصاص علماء الآثار".
ويضيف، "من المفترض وجود متحف وطني كبير في المحافظة يضم جميع المقتنيات الآثارية والتراثية القديمة لمدينة كربلاء المقدسة، ويكون مفتوحا لاستقبال الجمهور وتعريفه بتراثه وحضارته".
إعادة بريق التاريخ
بدوره يبين مؤسس قسم متحف الكفيل الأستاذ صادق الزيدي إن محتوياته تضم آلاف القطع التراثية التي تؤرخ لحقب زمنية سواء لمدينة كربلاء المقدسة أو الحضارة الإسلامية عموماً.
قائلاً، "أبرز المقتنيات تصنف حسب الصانع والاسم والتاريخ ونوع المعدن المستخدم وندرته".
موضحاً، "سيوف الملوك والسلاطين تعد الأقدم والأهم تاريخياً، مثلاً سيف السليم خان أو سيف فتى علي الشاه أو سيف نادر شاه".
ويتابع، "أما بالنسبة للمخطوطات فتعد مخطوطة القرآن الكريم المنسوبة للإمام زين العابدين الأهم والأندر في المتحف، أما على صعيد السِجّاد تكون القطعة المصورة لتشبيه الإمام علي عليه السلام هي الأنفس والأندر في نوعها تاريخياً".
ويكشف الزيدي عن طموحه المستمر في تطوير المتحف ليلائم مكانة المدينة وما تكتنفه من عتبات مقدسة لدى ملايين المسلمين حول العالم.
معلناً، إن "هناك مشروعا جاريا لتشييد مبنى جديد للمتحف بمساحة ثلاثة آلاف قدم ويتكون من ست طبقات".
مشيراَ، "بلغت نسبة الإنجاز في مشروع المبنى الجديد 75%".
وتأسس متحف الكفيل للنفائس والمخطوطات عام 2007، وافتتح رسمياً عام 2009، وتقدر مساحته بحدود 400 مترا، ويضم عدة شعب، منها شعبة المخزن والمختبر والتوثيق والأرشفة والقاعة، إلى جانب استحداث شعبة جديدة مؤخراً سميت شعبة الإعلام المتحفي والمجلة والمكتبة.
من الترميم إلى العناية الفائقة
وتحظى مقتنيات المتحف بعناية فائقة لحمايتها من التأثيرات المحيطة، إذ وظفت الأمانة العامة للعتبة العباسية المقدسة عشرات الكفاءات ضمن ملاكات المتحف.
فيكشف المختص بالترميم الكيميائي حسن هادي السلمان عن نجاح المتحف في "ترميم أكثر من 100 قطعة سيف، وصيانة 20 بندقية تراثية بالإضافة إلى أكثر من 100 قطعة مسدس، إلى جانب 340 شمعدانا".
مشيراً: إلى أن "عملية ترميم سيف السلطان سليم خان الذي يعود إلى 500 سنة استغرق أكثر من 7 أيام".
بدوره يبين (سجاد حسن علي) مسؤول شعبة مخزن النفائس "اتباع طريقة خزن يابانية في حفظ قطع السجاد النادرة".
فيقول، "نخزن السجاد بأحدث طريقة في العالم وتدعى طريقة خزن (الجكليتة)، وهي طريقة يابانية تشتمل على تغليف السجادة بقماش الكتان ولولبتها حول أنبوب".
ويضيف، "يوجد لدينا أكثر من 3000 سيف وهو عدد كبير جداً أدى بنا إلى ابتكار طريقة خزن وهي عبارة عن قطعتين كبيرتين من البلاستك تحتويان على ثقوب عديدة تحتضن السيوف فيها، كل ثقب داخل البلاستيك مرقم حسب رقم السيف".
وتخضع جميع المقتنيات لضوابط مقياس درجة الحرارة والرطوبة، إذ يحتوى المتحف على مستشعرات خاصة،
إلى جانب أجهزة مختبرية تتمثل بالميكروسكوب وعلى شكل مصائد توضع داخل المتحف والمخزن لصيد الحشرات، فضلاً عن جهاز لفحص درجة الإضاءة في المتحف.
وأخيراً وليس آخراً يشير مؤسس القسم إلى "استخدام برنامج حاسوبي خاص يسمى (بايثون)، لا يتوفر في أي متحف آخر لتوثيق ما موجود من مقتنيات المتحف".
مبيناً: "يكتب على كل قطعة رقم تسلسلي بالمكان الذي توضع فيه ومعلوماتها بالكامل ويكون بشكل ناطق ويتم توثيقها بالبرنامج لسهولة البحث والعثور عليها".
انجاز مشهود
من جانبها تبدي الدكتورة (مايا مرسي) كبير الباحثين في وزارة السياحة والآثار في دولة مصر العربية إشادتها بما حققه ملاك متحف الكفيل للنفائس والمخطوطات على صعيد العمل المتحفي.
فتقول: "متحف الكفيل يعتبر متحفاً مميزاً بسبب انجازاته رغم قصر عمره".
مبينة: "هناك عمل متميز على مستوى الأرشفة والتخزين وجمع المعلومات والتصوير وإنتاج المستنسخات".
وتضيف، "حجم المنجزات ليس بالهين، لقد استدعى مجهوداً جباراً وإمكانيات مادية وكفاءات بشرية". انتهى