
رحلة مائة عام بين عواصم الشرق
منذ أن وُجد وقبل أن ينير، كان قدره أن يعمِّر عقودًا دون أنْ يُصاب بأذى أو ضرر، إذ تلاقفته الأيادي بحرص شديد كأنّه طفل مدلل يخشى عليه جميع الناس، ويعاملونه بحذر شديد وخوف في نفس الوقت.
ونجا فيمن نجا من سقطات الدهر ومصائبه ولم تستطع السلطة الغاشمة أن تدمره رغم سعيها الحثيث في ذلك.
وعلى الرغم من سنوات عمره المائة ونيّف، يظهر زاهيًا ومنيرًا وسط أقرانه، الذين استطاعوا النجاة أيضا من التحطيم بفضل المخلصين.
تلك كانت باختصار نبذة عن أحد الفوانيس الملوّنة النادرة التي تتوسط موكب باب الطاق بمدينة كربلاء القديمة، مركز محافظة كربلاء المقدسة.
إذ تنتشر في مختلف زوايا وأزقة مدينة كربلاء القديمة التي تضمّ مرقدي الإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس -عليهما السلام- عشرات إن لم نقل المئات من المواكب العزائية التي تُقام من الأهالي مَطلع شهر المحرم، في تعبير عن إحياء ذكرى معركة الطف الشهيرة.
وتتزيّن هذه المواكب بالفوانيس التراثية الملوّنة والتي كانت يومًا من الأيام الوسيلة الوحيدة للإنارة في المدينة قبل أن تصل إليها مظاهر التطور العمراني بما في ذلك الطاقة الكهربائية.
ومما يبدو أن أصحاب هذه المواكب العزائية لا يزالون يرون في تلك الفوانيس القديمة تراثًا قيِّمًا يسعون إلى إبرازه والحفاظ عليه، جيل بعد جيل.
فيقول الحاج أبو علي ذو السبعين عامًا: "انضممتُ إلى الموكب وأنا ابن سبع سنوات، واليوم عمري سبعين عامًا، إذ كانت الفوانيس والمصابيح الزجاجية (الآلة) هي وسيلة الإنارة للموكب".
مبيّنا، "هذه المقتنيات الثمينة تعود لأكثر من مئتي عام، وقد دُفِنت إبّان الحكم البعثي بقرب نهر؛ لإخفائها عن أعين البعث".
ويضيف، "معظمها ذات المنشأ الروسي، ويبلغ سمكه ما بين ثلاثة إلى اربعة ملم، ويمتاز بدقة عالية في الصناعة".
مؤكّدًا، "كلّ قطعة من الفوانيس والمصابيح الزيتية القديمة لا تقدر بثمن".
مشيرًا، "انتقلت تلك القطع النفيسة من بلد المنشأ في روسيا مرورًا بطريقين، إمّا عن طريق الأناضول أو عن طريق إيران حتى وصلت إلى مدينة كربلاء المقدسة".
معلّقًا، "من حسن حظها أنّها انضمت إلى المواكب الحسينية وإلّا كان مصيرها الكسر والإهمال".
من جانبه يبيّن الحاج حسين الخالدي أحد خدمة موكب باب النجف في المدينة القديمة أنّ "عملية إدامة وتنظيف تلك الفوانيس والمصابيح تجري بدقة وحذر كبيرين في كلّ عام، قبل بدء موسم الأحزان (شهري محرم وصفر)، وبعد انتهاءه".
فيقول، "لا يُسمح لأي عضو في الموكب أن يلمس تلك الفوانيس والمصابيح في أثناء عملية إخراجها من المخزن أو عن طريق عملية تنظيفها وأيضا بوضعها في الموكب".
مبينا، "هناك اشخاص محددون يتولّون هذه المهمة، يتمتعون بحيطة وحذر شديدين في التعامل مع هذه القطع النفيسة".
ومرّت المجالس الحسينية بأدوار شتّى على امتداد تاريخها وتعرضت لظروف قاسية نتيجة السياسات المتعاقبة، مما اضطر الشيعة لإقامتها خفية؛ خوفًا من القتل أو الاعتقال.
وفي عام (1975) منعت السلطات البعثية جميع المواكب الحسينية من القيام بشعائرها ليلة العاشر.
فيُعلِّق الحاج أبو علي على تلك الأحداث، "كانت السلطة تمارس أقسى الأساليب القمعية ضد كلّ من يقيم مأتمًا أو ينصب موكبًا حسينيَّا، الأمر الذي دفع بِنا أن نودعها لدى أحد وجهاء الموكب، وقد حافظ عليها إلى أن توفاه الله -سبحانه-".
ويتابع، "انتقلت الأمانة إلى أبنائه وبعد سقوط النظام عام 2003، أُعيدت هذه القطع إلى الموكب".
مؤكّدًا، "بعض المصابيح التراثية أصبحت اليوم تُحفًا فنية نحتفظ بها ولا نستخدمها داخل الموكب، بل نعرضها كجزء من ذاكرة الموكب".
الهودج
إلى جانب الفوانيس والمصابيح الزيتية كان هناك ما يسمى بالهودج الذي هوعبارة عن خشبة طويلة يتفرع منها عدد من المشاعل يتراوح بين 20 إلى 30 مشعلًا، توضع في كلّ مشعل قطعة قماش تنقع بمادة النفط الأسود غالبًا، وتُشعل النار فيها، ويقوم بحمل هذه المشاعل شاب تختاره العشيرة أو البيت النجفي أو الكربلائي بعناية ودقة.
يقول إبراهيم شاكر، "حمل الهودج الحسيني، يحتاج إلى الكثير من القوة لرفع أكثر من مئة كيلوغرام، الإيمان بالإمام الحسين (عليه السلام) والذي قدّمه من تضحية لأجل الدين، يجعلك قادراً على حمل أوزان أكبر، الأمر لا يتعلق بقوتك البدنية فقط، بل بإيمانك".
توارثت العائلات والعشائر تلك الطقوس منذ أجيال، اذْ تشهد العشائر المحلية في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة منافسة لاختيار أفضل حامل لـ "المشعل"، الذي يتطلب موازنة وقوة بدنية للحفاظ على حركته المستمرة..
ويلفت شاكر إلى، أنّ "ما يميز حاملي المشاعل مهاراتهم العالية بدورانه والحركة به حتى كأنه لا يزن شيئًا أمام قوة الشباب البدنية".
ويضيف، "يُرافق حاملي المشاعل أشخاص مختصون يصبّون الزيت على الرؤوس لتقوية نارها والحفاظ عليها مشتعلة، وسط دقّ الطبول واللطميات؛ استذكارًا لواقعة الطف، وتحتشد جموع المعزّين عند بوابات مرقد الإمام علي -عليه السلام- أو الإمام الحسين وأخيه العباس -عليهما السلام- لاستقبال المشاعل".
متابعًا، "تبقى طقوس تدريب المشَق والمشاعل منذ بداية محرّم الحرام حتى تستعد كُل عشيرة لليلة العاشر من محرم لعرض مشاعلها، فيتجمهر الناس قبيل غروب شمس اليوم التاسع من الشهر، وأحيانًا حتى صباح عاشوراء".
ويبدو أن الفوانيس والمشاعل لم تبقَ مجرد أدوات إنارة، بل تحولت إلى رموزٍ تُجسّد روح التضحية والولاء، وامتدادٍ حسيٍّ ووجدانيٍّ لثورة الإمام الحسين -عليه السلام-.
فهي تمثّل ذاكرةً جماعيةً حيّةً، تربط الماضي بالحاضر، وتمنح المواكب هويةً لا تُمحى مهما تغيّرت الأزمنة.