
في خضمّ معاناة المواطنين بسبب الانقطاعات المستمرة للكهرباء، كانت العتبة العباسية المقدسة تبحث عن حلول مناسبة تخفّف من وطأة هذه المشكلة المستعصية في حدود امكاناتها البسيطة فيهذا المجال، وترى فيها فرصة للتحوّل نحو حلول مبتكرة ومستدامة.
تشكّل أزمة الكهرباء همًّا يوميًا للمواطنين منذ تدير محطات الطاقة في المغامرة العسكرية الفاشلة للنظام الديكتاتوري في حرب 1991م، إذ يعتمد الكثيرون منهم على المولدات التي تلوث الهواء وتكبدهم تكاليف إضافية.
لم يكن المهندس كرار الفتلاوي، مدير مشروع الطاقة الشمسية التابع لشركة الكفيل، بعيدا عن هذا الواقع المليء بالمصاعب والتحديات.
معاناة الناس
في مدينة كربلاء، كان محمد ناصر واحد من كثيرين يعانون بسبب انقطاع الكهرباء المستمر، و" في الصيف، الوضع لا يُطاق، فالمولدات مكلفة جدًا، والانقطاع يتكرر يوميًا، وعائلتي تعاني ارتفاع درجات الحرارة وعدم وجود كهرباء لتشغيل المراوح أو أجهزة التبريد" يروي محمد، وهو يعبّر عن يأسه من الوضع.
بينما كان حيدر حمود، وهو طبيب في محافظة بابل، يواجه تحديًا آخر، "كطبيب، لا يمكنني تحمل انقطاع الكهرباء، عيادتي بحاجة إلى إضاءة دائمة وتشغيل الأجهزة الطبية الحساسة، كنت أواجه صعوبة في توفير الكهرباء للمعدات الطبية الضرورية، وكان من المستحيل الاستمرار في العمل في مثل هذه الظروف".
دور كرار الفتلاوي والعتبة العباسية المقدسة
تبدأ قصة الأمل عندما بدأ المهندس كرار الفتلاوي وفريقه في العتبة العباسية المقدسة التفكير في إيجاد حلّ دائم لهذه المشكلة.
يعرف كرار أنّ العراق يمتلك إمكانيات كبيرة للاستفادة من الطاقة الشمسية بسبب موقعه الجغرافي الذي يضمن له أكثر من 3000 ساعة من الشمس سنويًا، ولكنّ التحدي كان في تطبيق الحلول المناسبة على الأرض العراقية.
"في نهاية 2017، طرحنا فكرة تجهيز العتبة العباسية المقدسة بألواح شمسية، وكان الهدف ليس فقط توفير الكهرباء للمواقع التابعة لنا، بل كانت لدينا رؤية أوسع لتحقيق الاستدامة البيئية والطاقة النظيفة في البلاد" يشرح كرار.
الدعم الكبير من العتبة العباسية المقدسة كان جزءًا أساسيًا من النجاح الذي تحقق لاحقا "العتبة العباسية المقدسة لم تكن فقط داعمة ماليًا، بل كانت شريكًا حقيقيًا في التحول نحو طاقة نظيفة، عن طريق رؤيتها المستقبلية واهتمامها بالمصلحة العامة، فهي جهزت أول المشاريع الشمسية التي بدأت في كربلاء" يضيف كرار.
شركة الكفيل ودورها في المشروع
شركة الكفيل للاستثمارات العامة، التابعة للعتبة العباسية المقدسة، تأسست لتكون أحد الأذرع الاقتصادية للعتبة العباسية، ولتسهم في تحقيق التنمية المستدامة في العراق.
منذ نشأتها، عملت الشركة على عدة مشاريع استثمارية وريادية، ومنها هذا المشروع الطموح للطاقة الشمسية.
"نحن في شركة الكفيل نؤمن بأهمية الابتكار وتطبيق التقنيات الحديثة لخدمة المجتمع العراقي ولذلك، كان مشروع الطاقة الشمسية جزءًا من استراتيجيتنا لتوفير حلول مستدامة في مواجهة أزمات نقص الطاقة" يقول جعفر حسين القطب، مدير شركة الكفيل للاستثمارات العامة.
الألواح الشمسية الحل البديل
الألواح الشمسية ليست مجرد ابتكار تقني، بل هي استراتيجية طاقة نظيفة وفعالة "عندما تحدثنا عن الألواح الشمسية لأول مرة، كان بعض الناس يشككون في إمكانية أن تكون هذه التكنولوجيا مناسبة للبيئة العراقية، ولكن مع مرور الوقت، أثبتت الألواح الشمسية كفاءتها العالية في تحويل الشمس إلى طاقة كهربائية"، يوضح المهندس كرار.
إنّ الطاقة الشمسية تتمتع بميزة استثنائية تجعلها مناسبة تمامًا للأجواء العراقية، إذ يمكنها الاستفادة من السطوع الشمسي العالي طوال العام، مما يجعل العراق أحد الدول المثالية لاستخدام هذه التقنية.
يضيف كرار "الألواح الشمسية تُعدّ بديلًا غير مكلف وصديقًا للبيئة مقارنة بالمصادر التقليدية مثل المولدات التي تستهلك الوقود وتساهم في تلوث الهواء".
أهمية الطاقة الشمسية وتاريخها العالمي
ترجع جذور الطاقة الشمسية إلى القرن التاسع عشر، إذ اكتشف الفيزيائي الفرنسي أدمون بيكيريل ظاهرة التأثير الكهروضوئي في عام 1839، بينما كانت أول خلية شمسية عملية قد تم تطويرها في عام 1954 في مختبرات بيل لابز في الولايات المتحدة.
ومنذ ذلك الحين، بدأت الألواح الشمسية تنتشر في العديد من أنحاء العالم.
اليوم، يتم استخدام الألواح الشمسية في جميع أنحاء العالم، سواء في المنازل أو المشاريع الكبرى، لتوليد الكهرباء بشكل مستدام وبتكاليف منخفضة نسبيًا.
ووفقًا للإحصاءات، تُعدّ الصين وألمانيا والولايات المتحدة من أكبر الدول في استخدام الطاقة الشمسية.
ومع التحسن المستمر في كفاءة الألواح الشمسية وانخفاض أسعارها، أصبح استخدامها أكثر شيوعًا، مما يعزز من دورها كمصدر للطاقة البديلة والمستدامة.
مستقبل الطاقة الشمسية في العراق
بعد النجاح الأوّلي، تمكّن المشروع من الانتشار إلى العديد من المدن العراقية، ليشمل أكثر من 75 منزلًا في عدة محافظات، بالإضافة إلى مشاريع كبيرة مثل مشروع موكب ومضيف العتبة العباسية المقدسة، ومشروع جامعة الكفيل.
"لقد أصبح لدينا اليوم منظومات شمسية في العديد من الأماكن التي كانت تعاني من مشكلة الكهرباء، وهذا النجاح دفعنا للتوسع في مشاريع جديدة"، يقول كرار.
وفي أحد الأيام، يجلس حيدر حمود في عيادته في بابل، يشاهد المعدات الطبية تعمل بشكل طبيعي بفضل الطاقة الشمسية "أنا الآن أستطيع أن أركز في عملي دون القلق بشأن انقطاع الكهرباء، فهذه الألواح أنقذتني وساعدتني في مواصلة عملي بكل طمأنينة".
أما محمد ناصر، فيجد نفسه في منزله محاطًا بالراحة، إذ ينعكس ضوء الشمس على الألواح الخارجية، لتحولها إلى طاقة كهربائية تُضيء أرجاء منزله "إنه شعور رائع أن تعرف أن الكهرباء لن تنقطع فجأة، إنها ليست مجرد راحة، بل هي استثمار للمستقبل".
كانت رؤية المهندس كرار الفتلاوي والعتبة العباسية المقدسة من وراء هذا المشروع أكثر من مجرد بحث عن حلول تقنية.
بل كان الأمر يتعلق بإحداث تحوّل حقيقي في طريقة تفكير المجتمع العراقي نحو الطاقة المتجددة، ومع توسع المشاريع ونجاحها، يتطلع العراقيون إلى مستقبل أكثر إشراقًا ونظافة، إذ تكون الطاقة الشمسية جزءًا من حياتهم اليومية، وتكون التكنولوجيا الحديثة هي مفتاح التغيير والتحول نحو عالم أكثر استدامة.