
بصحبة أحفاده يتوجه الحاج رزاق الكربلائي للمشاركة في مجالس العزاء التي تقام في الحي الذي يقطنه، مُبديًا حرصه الكبير على المواظبة للحضور طيلة أيام شهري المحرم الحرام، وصفر الخير.
هذان الشهران فرصة لا تعوض تضاف لشهر رمضان الكريم، يستطيع من خلالهما الانسان ان يصلح من نفسه، ويستذكر تضحيات من حفظ الدين بدمه، فهما الشهران اللذان يحتضنان الذكرى السنوية لاستشهاد الإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس وثلة من أصحابهم في واقعة الطف الشهيرة التي جرت عام 61 للهجرة في كربلاء المقدسة.
إذ يحيي أهالي المدينة - بمشاركة ملايين الزوار - سنويا هذه الذكرى الأليمة عبر إقامة الشعائر الحسينية التي تتضمن مجالس الندب والاستذكار لسيرة أهل بيت النبوة -صلوات الله وسلامه عليهم- وتمثيل جانبٍ من مشاهد واقعة المعركة، إلى جانب إقامة مواكب العزاء الثابتة والجوالة.
ويرى الحاج رزاق الكربلائي، "منذ نعومة أظفاري، كنت أرافق والدي إلى المجالس، وقد غرس في قلبي حب الإمام الحسين -عليه السلام-".
مُبيّنًا، "أجد من واجبي أن أغرس حب أهل البيت وولاءهم -عليهم السلام- في نفوس أحفادي كما فعل والدي".
وتنقسم مجالس العزاء الحسيني في مدينة كربلاء المقدسة على قسمين، الأول: مجالس عزاء الرجال، والآخر مجالس عزاء خاصة بالنساء، إذ لا يخلو زقاق في أحياء المدينة والمدن التابعة لها من مجلس عزاء ينظمه الأهالي.
وعادة ما تُعقد مجالس العزاء الحسينية في المساجد والحسينيات ودواوين وجهاء المدينة والمضايف العشائرية ومنازل الأهالي بشكل عام.
تاريخ مجالس العزاء الحسيني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبحسب أقوال مؤرخي الشعائر الحسينية، فإنّ تلك المجالس موغلة في القدم، وجاءت إثر واقعة الطف مباشرة، إذ يشير الباحث حيدر حب الله، إلى أنّ "الإمام محمّد الباقر (114هـ)، كان وراء تكوين المأتم الحسيني بوصفه شعيرة دينيّة، وكان يحثّ الناس على البكاء والحزن على الإمام الحسين -عليه السلام- وكان يحثّ عامّة الناس على ذلك ويبيّن الثواب والأجر للبكاء على الحسين".
مُبينا، أنّ "الإمام الباقر -عليه السلام- شرح للناس تفاصيل الأعمال المرتبطة بالذكرى كندب الإمام الحسين -عليه السلام- وأمر من في الدار بالبكاء عليه وإظهار الحزن".
ويتابع المؤرّخ حيدر حب الله، "أنّها تشكّل النواة الأولى لمجموعة عزائيّة، وهي أن يجتمع من في البيت، ويبكون الحسين ويعزّي بعضهم بعضًا، وهذا يعني أنّ الباقر -عليه السلام- أطلق النواة الأولى للتجمّع العزائي، وعدّ ذلك أمرًا يُثاب عليه الإنسان، ويعدل ما هو أفضل من أعمال دينيّة أخرى".
مشيرًا، "بهذا تكوّنت فكرة الشعيرة الدينيّة أو الإحياء الديني لقضيّة الإمام الحسين -عليه السلام-".
محاولات قمع الشعائر الحسينية
بدوره يرى الباحث والمؤرخ سعيد رشيد زميزم، أنّ "في عهد الاحتلال العثماني بدأت مجالس العزاء الحسيني تنتشر في بيوت الشيعة بصورة أكبر بعدما منعت في العهدين الأموي والعباسي".
مشيرًا إلى أنّ "السلطات العثمانية خففت الوطأة ربما لتتفرغ لعملية جباية الضرائب ولتجنب سخط العامة عليها، وبدأ الناس من الوجهاء والشيوخ بإقامة المجالس الحسينية".
ويضيف، "برزت أهمية إقامة المجالس لنشر الوعي وزيادة الألفة واللحمة والحفاظ على القضية الحسينية من الاندثار".
مؤكّدًا، "واجه الشيعة تحديات مستمرّة في زمن الطاغية صدام لأنّه يَعدّ مراسم العزاء عنفوانًا وتحديّا خطيرًا ضده، كما انها تشكل له ولكل طاغية وسيلة لشحن عواطف الناس بكل ما هو ضد التزييف والجور لأنها تذكر بملحمة الطف وتضحياتها من أجل حماية الدين من جور الطغاة، لذا أراد الطاغية بذلك أن يقضي على هذه التقاليد، إذ شكّل الأجهزة الأمنية وغيرها لقمع تلك الشعائر والقضاء عليها".
ويروي زميزم حادثة وقعت له في أثناء عودته من العاصمة بغداد، إذ كان برفقته السائق الذي كان يشغّل شريط (كاسيت) يحتوي على قصيدة حسينية مؤثرة.
مبينا، "بحكم معرفة السائق لنا وثقته بنا، ترك الشريط يعمل حتى وصلنا إلى نقطة تفتيش في مدخل بغداد، فقام بإطفائه وإخفائه حرصًا على ألّا يسمع القصيدة عناصر الأمن في أثناء التفتيش".
ويضيف، "في نقطة التفتيش قام رجال الأمن بتفتيش السيارة وشغلوا شريط الكاسيت، فبدأت أولًا أبيات شعرية عادية، ثمّ تلتها مباشرة القصيدة الحسينية، الأمر الذي أدّى إلى اعتقاله، وحُكم عليه بالسجن خمس سنوات، وأنا كنت شاهدًا على تلك الحادثة".
ويشير زميزم، "هذه الحوادث لم تكن استثناءً، بل كانت مجرد نماذج بسيطة من آلاف القصص التي كانت تحصل يوميًّا في ظل النظام البعثي، إذ كان مجرد التعبير عن الحزن على الإمام الحسين -عليه السلام- أو إقامة شعائر خفية يُعدّ جرمًا قد يودي بصاحبه إلى السجن أو التعذيب أو حتى الإعدام".
مختتما، "كانت تلك المرحلة مليئة بالخوف، ولكنّ حبّ الحسين في القلوب كان أقوى من كلّ أشكال القمع".
بدوره يؤيّد الحاج رزاق ما يروي زميزم معلّقا، "إبّان النظام البعثي المقبور كانت المجالس تقمع بأبشع أساليب العنف، وكان مجرد إقامتها مجازفة قد تودّي بصاحبها إلى السجن أو ما هو أشد".
فيما يشير الحاج جاسم هنون، البالغ من العمر 81 عامًا، إلى أنّ "الطريق لم يكن معبّدًا أمام إقامة مجالس العزاء في المنازل بعد أن مُنعت في الحسينيات والدواوين زمن الحكم البعثي".
ويشير الهنون، "كنّا نقيم المجالس في الخفاء، ونخشى أن يتسرّب الصوت إلى الخارج، والبعض كان يخشى حتى الحضور، لكننا كنا نُردد بثقة عالية إنها مجالس الحسين، ولن تنقطع ما دمنا أحياء".
ويختتم، "اليوم وبعد انتهاء حقبة البعث المقبور وتبدّل الظروف، تطورت المجالس وأخذت طابعًا أكثر تنظيمًا، وتُرتب المجالس بحسب تسلسل أيام عاشوراء، تُتلى فيها السيرة، وتُقرأ المقاتل، وتُرفق بمراثٍ ولطاميات تُلهب مشاعر الحاضرين.