في صباحٍ كربلائي ملبد بالحزن، تتجمهر آلاف النساء قرب التل الزينبي، يصرخن بنبضِ القلوب الذاهبة نحو الحنين الأبدي... إنّها ركضة النساء في يوم دفن أجساد الإمام الحسين واخوته وأهل بيته وأصحابه عليهم السلام، اليوم الثالث عشر من المحرم، إذ تنبعث كربلاء من رماد الألم مجددًا.
بعباءات سوداء تلامس الأرض، ووجوه تَغمرها الدموع، تسير النساء مسرعات صوب المخيم الحسيني، مُردّدات مراثي السيدة زينب -عليها السلام- وكأنّ التاريخ يعيد نفسه، إنها ركضة حزينة لا يشبهها شيء، استحضارٌ حيّ للحظة دفن الشهداء، لحظة دفن التاريخ في بقاع كربلاء.
النساء يجلسن متقاربات على الأرض، بعضهن يحدّق في الأفق، وكأنّهن ينتظرن ظهور الحسين -عليه السلام- من جهة القبلة، وأخريات يهمسن بالدعاء، أو يضربن على صدورهن بلطميات خافتة، تخنقها هيبة الانتظار.
إحداهن تمسك بمسبحتها، تعدّ الحبات لا الأرقام، بل بأسماء الشهداء، وأخرى تمسح دمعة نزلت فجأة حين تذكّرت كيف صلى الحسين بجسده المنهك... ومات واقفًا.
تنتظر النساء قرب التل الزينبي في ظهيرة كربلاء، حيث تسقط الشمس عمودية على أرضٍ ما زالت تحتفظ بحرارة الدماء الطاهرة، تقف النساء صامتات، باكيات، ملتفات بالسواد، في مشهد يشبه الوقوف على أطراف الجمر، ينتظرن أذان الظهر، ليس لأداء الصلاة فقط، بل لإحياء لحظة توقفت فيها السماء في عاشوراء، حين صلّى الإمام الحسين -عليه السلام- تحت وابل السهام.
و"التل الزينبي الذي يقع إلى غرب مرقد الإمام الحسين -عليه السلام-، واتخذ أهميته التاريخية من وقفة السيدة زينب بنت علي -عليهما السلام- فوقه في أثناء معركة الطف الخالدة".
"وتتجلّى في هذا اليوم أدوار النساء من بني أسد، إذ كنّ أول من أصرّ على مواراة جسد الإمام الحسين -عليه السلام-، بحسب ما ترويه الروايات التاريخية، أنّ نساء بني أسد جئن إلى كربلاء وشاهدن الأجساد المقطعة، فأخبرن أزواجهن وأهاليهن، ليشارك الجميع في دفن الشهداء رغم المخاطر والتهديدات".
"وفي اليوم الثالث عشر من المحرم، أي بعد انتهاء المعركة بثلاثة أيام، جاء الإمام زين العابدين -عليه السلام – الناجي الوحيد من أبناء الحسين – مع جماعة من بني أسد، ليقوموا بمهمة دفن الشهداء، في مشهدٍ بالغ الحزن والرهبة.
الإمام زين العابدين، وهو لا يزال مريضًا ومنهكًا، تولّى دفن جسد والده الإمام الحسين بنفسه، ودُفنت في موضعين هما قبر الإمام الحسين عليه السلام مع ولديه، وباقي الأصحاب في موضع واحد كبير، عدا أبي الفضل العباس عليه السلام دُفن في موقع استشهاده بطلب منه للإمام الحسين عليه السلام، حياءً من العيال لأنهم طلبوا منه الماء ولم يستطع ايصاله لهم بعد قطع يديه وقتله، ويبدو ان هناك حكمة من دفن جسده حيث استشهد، فيكون لديه عتبة مستقلة مقصداً لطلاب الحوائج كونه أحد أبوابها ".
ثم، في لحظة مفاجئة، يعلو الأذان... وتُخيم سكينة مهيبة، لا صوت فيها إلا أنين القلب.
في تلك اللحظة، لا تكون صلاة ظهر عادية، بل هي إعادة سرد لصلاة الحسين الأخيرة، التي وقف فيها مصليًا ووراءه من استُشهدوا على نية الخلود، وسط صمت النساء، ووجوه تشبه الدعاء الخالص.
موروث تاريخي واستعدادات مسبقة
الشيخ صلاح الكربلائي رئيس قسم الشؤون الدينية في العتبة العباسية المقدسة، يشدد على أهمية هذا الحدث.
قائلًا: "استنادًا إلى ما نؤمن به، فإنّ المعصوم لا يواريه إلا معصوم، وقد أشرف الإمام زين العابدين -عليه السلام- بنفسه على مواراة الأجساد"
ويضيف، "دأب الشيعة وأتباع أهل البيت على إحياء هذه المناسبة عن طريق المجالس والمسيرات، خصوصًا في كربلاء، حيث تنطلق مسيرة النساء صباحًا، تليها مسيرة الرجال، وتنتهي بإلقاء القصائد واللطميات في صحن الحسين وصحن العباس -عليهما السلام-".
فيما يتصدر المشهد الشيخ سعد عبد الله الأسدي، شيخ عشيرة بني أسد، الذي لم يكتفِ بالمشاركة فقط، بل يجهد في الإشراف على تنظيم الفعاليات.
ويعلّق، "هذه الذكرى ليست مجرد مناسبة تعبّر عن الحزن فحسب، بل هي ثورة داخل نفوسنا، نعبّر فيها عن عزمنا على مواصلة طريق الحق ومواجهة الظلم بكلّ ما نملك من قوة، فنهج الإمام هو طريقنا، وسنظل نذكر تضحياته حتى نلقى الله ونحن على الحق".
حيث أن نساء بني أسد في تلك المرحلة هن من اكتشفن الأجساد بعد المعركة حين وردن الماء ليكلأن قربهن، وأخبرن رجالهن فأتوا مسرعين لتلبية واجب الدفن، فترآى لهم فارسٌ ظهر عند اقترابه انه الامام السجاد عليه السلام، ليتولى هو ارشادهم لجسد كل شهيد وموضع دفنه، وتولى بنفسه دفن الامام الحسين عليه السلام.
بعد صلاة ظهر يوم الدفنة
بعد انتهاء صلاة الظهرين يبدأ الحرم الحسيني يفتح أبوابه استعدادًا لاستقبال النساء المعزيات للدخول ركضًا إلى الحرم المطهر، تتعالى أصوات خدمة العتبة الحسينية المقدسة بـ "لبيك يا حسين" ومع انتهاء صلاة الظهر، يسود صمت مهيب في أروقة كربلاء... لحظات لا تُقاس بالزمن، بل تُقاس بالدموع المنتظرة والقلوب المتهيئة للانفجار بالبكاء، عيونٌ ترقب، وأقدام تتهيأ، وأبواب الحرم تفتح كأنها أسرار أكبر من أن تُروى.
تنفجر العاطفة المكبوتة، تندفع النساء راكضات، لا خشية من زحام، لا تردد ولا توقف، يركضن والدموع تسبق الأقدام، وكأنّ أرواحهن سبقت أجسادهن إلى المقام الشريف، ويرتفع صوت النحيب، ويمتزج بنداءات "يا حسين"، وتغدو الأرض طريقًا من الحنين الممتد بين القلب والضريح.
يُسابقن الزمن للوصول إلى الحرم المطهر، تتعالى الأصوات بالبكاء والدعاء، وكأنّ كلّ واحدة منهن جاءت لتدفن حزنها بين يدي الإمام.
هي لحظة تجسّد فيها الحزن، وتحولت الأرض إلى مرآة للسماء.
كلّ خطوة فيها تكتب قصة عشق، كلّ دمعة تسرد حكاية وجع، وكلّ امرأة فيها تمثّل زينب وهي تدخل على قبر أخيها، مكسورة القلب، مثقلة بالهم، لكنّها صلبة كالصخر.
تقول الحاجة أم عباس، إحدى المشاركات في هذه المراسيم العظيمة، "الثالث عشر من محرم يمثل بالنسبة لنا لحظة الوفاء الأخيرة من الإمام السجاد ولأبيه ولعمّه وأصحابهم، ونحرص أن نُحييها بكلّ ما نملك من حزن وإيمان".
وتشير، "يوم الدفنة يُمهّد لبدء المرحلة الثانية من رحلة النهضةالحسينية وانتقال الرسالة من الدم إلى الكلمة، ومن المعركة إلى الوعي".
سلال "الخوص"
تعتلي أكتاف النسوة سلال مصنوعة يدويا من سعف النخيل، تسمى شعبيا باللهجة العراقية بـ "الخوص" مملوءة بالرمال، لتجسيد اللحظة التاريخية التي دُفنت فيها الأجساد الطاهرة.
نساء بثياب السواد، عيونهن دامعة، ووجوههن خاشعة، بخطى ثقيلة نحو الضريح، رافعات السلال إلى أعلى رؤوسهن، كأنهنّ يحملن قطعة من مأساة عاشوراء.
عند أبواب الحرم الحسيني، تبدأ بعضهن في نثر التراب على الأرض، والبعض الآخر تضع حفنات تراب على الرأس - وهو تقليد عراقي موروث من حضاراته القديمة يعبر عن عميق الالم والمواساة لفقد عزيز أو عظيم قوم- أو على جوانب الصحن، يرددن أدعية بصوت خافت، وتتمتم الشفاه بعبارات الرثاء وأشعار الحزن العراقية المأثورة.
تقول أم حسين التي تقرأ الرثاء للحسين -عليه السلام- وتشارك في هذه المسيرة في كلّ عام: "هذا الطقس يهدف إلى ربط الزائرين، خصوصًا النساء، بلحظة دفن الشهداء وتعميق الإحساس بفداحة الفاجعة".
سلال "الخوص" لم تعد مجرد عادة، بل أصبحت جزءًا من المشهد العاشورائي، يُمارَس بدافع الحب، والوفاء، والتاريخ، خاصة من النساء اللواتي يمثلن الامتداد الروحي لعقيلة بني هاشم، السيدة زينب -عليها السلام-.
مسار ركضة النساء
بعد دخول النساء من جانب التل الزينبي إلى الحرم الحسيني المطهر وأداء التحية والبكاء، والنداء للحسين ولأمّه الزهراء بتجديد العهد والوفاء "أبد والله يا زهراء ما ننسى حسيناه".
يتوجّهنَ إلى مرقد أبي الفضل -عليه السلام- حيث تأخذ الرحلة إلى ضريح أبي الفضل العباس -عليه السلام- نكهة خاصة، مختلفة عن كلّ الأيام.
ليس مجرد دخول إلى مرقدٍ شريف، بل زيارة لقلب الحسين، ووفاء لصاحب اللواء، وبكاء على الأخ الذي قُطعت كفّاه.
عند بوابة الضريح، يقف الزمان مترددًا أمام دموع النساء، وقلوبهن المثقلة بالحزن تتقدم بخطى متسارعة، بعضهن يهرعن، وأخريات يحملن أطفالهن فوق أكتافهن، مواساة لأطفال الامام الحسين عليه السلام، كأنهنّ يُدخلنهم إلى حصن من الطهر والبطولة.
في الأروقة المحيطة بالمرقد، تعلو النداءات، "يا عباس جيب الماي لسكينة"، وتختلط تلك النداءات بنشيج الباكيات، تُترجم عيونهن كلّ ما تعجز عنه الكلمات.
الهواء ثقيل، تتخلله أنفاس متقطعة، تخرج من صدور الأمهات، الأرامل، والجدّات، والفتيات الصغيرات اللواتي لم يفهمن بعد لماذا تبكي النساء حين تسمع عبارة "الله أكبر" في أذان الظهر.
استعدادات مسبقة
من جانبه، يوضح الأستاذ عقيل سالم عبد الكريم معاون رئيس قسم حفظ النظام، تفاصيل الاستعدادات لهذا اليوم، "وضعنا خطة للثالث عشر من المحرم، لموكب النساء الذي يبدأ بعد صلاة الظهر ويستمر ساعة ونصف تقريبًا".
مبينا، "أفرغنا الصحن والحرم من الزوار منذ الصباح، وجهزنا الكوادر ووزعنا المهام".
مشيرًا، "هناك أربعة أبواب مخصصة لدخول النساء، والخروج يكون من باب القبلة وباقي الأبواب".