بخطى مُثقلة، ومشاعر تختلط بين الحزن والغضب، كان الدكتور محمد جاسم الحمداني يتجول داخل أروقة المكتبة المركزية في جامعة الموصل، التي تفوح في أركانها رائحة الحريق الممزوج بغبار الرماد، متطلّعًا في جدرانها السوداء التي تهمس بأوجاع ماضٍ حفته ألسنة اللهب.
فالألم كان يعتصر قلب الحمداني، وهو يرى حجم الدمار الذي لحق بتلك المكتبة التي كانت من أهم المعالم الثقافية في المدينة، بعد أن عاثت بها دمارًا فلول تنظيم داعش الإرهابي بشكل أتى عليها تماما.
متمعّنًا بحرقة في زوايا تلك المكتبة التي كانت تضمّ مئات آلاف القصص، والذكريات، والعلوم المعرفية، بين طيات كتبها المحترقة، مسدلة الستار بشكل مأساوي على أكثر من مليون مصدر معرفي بات أثرًا بعد عين.
إذ كانت المكتبة المركزية تُعدّ شريان جامعة الموصل، والمصدر الرئيس للمعلومات والمراجع لأكثر من 60 ألف طالبٍ وباحثٍ، وتضم أكثر من 600 ألف مصدر باللغة العربية، و400 ألف مصدر باللغة الإنكليزية وغيرها من اللغات، وأيضًا نحو 10 آلاف كتاب مرجعي، و500 إصدار خاص بالمطبوعات الحكومية، يعود جزء منها إلى بدايات تأسيس الدولة الحديثة في العراق في خريف 1920 ثم نظامها الملكي عام 1921، فضلًا عن أكثر من 30 ألف دورية متخصصة.
ويبين الحمداني الذي يشغل مسؤولية الأمين العام لمكتبات جامعة الموصل، "اشعر وكأنّ قلبي حُرِق مع تلك الكتب التي رافقتني في كلّ مراحل حياتي الأكاديمية".
معلقًا بانكسار واضح، "هذه المنارة العلمية تعرضت إلى جريمة بشعة على يد عصابات داعش الإرهابية، إذ أقدموا على حرق القسم الأكبر من محتوياتها".
وتعرّضت المكتبة -إلى جانب الدمار الذي لحق بسبب عبث فلول التنظيم الإرهابي - إلى قصف جوي من قبل الطائرات الأميركية لمساندة الجيش العراقي وقواتنا الأمنية في عمليات التحرير، مما أدّى إلى تدمير 98% من بناها التحتية.
*اتفاقية إعادة الأمل*
وكما يبدو أنّ العناية الإلهية لطفت بتلك المكتبة بسرداب أسفلها لم يصله الدمار بشكل مباشر، وكان يحتضن مجموعة من الكتب النادرة والصحف القديمة، تلك الكتب التي أنقذتها أكفّ عدد من شبان مدينة الموصل؛ إدراكًا منهم لقيمتها العلمية والثقافية، لتمتد لاحقًا يد العتبة العباسية المقدسة، أملًا في استعادة بريقها المفقود وترميم جراحها وفق طرق علمية وأجهزة علمية متطورة.
يقول الحمداني، "جرى إبرام اتفاقية مع العتبة العباسية المقدسة متمثلة بمركز الفضل لصيانة وحفظ التراث المخطوط والأرشيف الوثائقي".
مبينا، "جاءت الاتفاقية بناءً على توصية رفعتها إلى اللجنة الفنية المكلفة بإعادة إعمار المكتبة بعد أن اطلعت على المستوى المتطور للتقنيات التي يستخدمها مركز الفضل".
وبحسب أقوال مطلعين، فإنّ الاتفاقية جرت بالتعاون مع منظمة اليونسكو التي تولت مهمة إنقاذ مكتبة جامعة الموصل، وكانت نقطة الانطلاق بلقاء جمعٍ من الخبراء والمختصين، من ضمنهم ممثلين عن مكتبة العتبة العباسية المقدسة.
يشير الحمداني، "تخلل الاجتماع استعراض الإمكانات التي يمتلكها مركز الفضل من أجهزة ومعدات وخبرات، فوقع الاختيار عليه ليكون الشريك المحلي في مشروع إنقاذ مكتبة الموصل، وتحديدًا في مجال صيانة الكتب وحفظها".
ومركز الفضل لصيانة وحفظ التراث المخطوط والأرشيف الوثائقي التابع لقسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة، يُعدّ واحدًا من أهمّ المؤسسات الوطنية النادرة لحفظ التراث المخطوط؛ لما يحتويه من إمكانات تقنيّة وخبرات عراقية قلّ نظيرها، استطاعت خلال سنواتٍ، من ترميم وحفظ آلاف المخطوطات الدينيّة والعلميّة في العراق.
وبحسب قول مدير المركز السيد ليث لطفي فإنّ، "حجم الضرر في المكتبة كان هائلًا، إذ تعرّضت لحريق نتيجة تفجيرات بالـ TNT وسقوط الصخور المتفتتة عليها، ممّا ألحق أضرارًا مباشرة بالمجموعات الورقية".
ويضيف، "عند وصولنا، وجدنا أنّ أغلب الأضرار كانت تمزقًا وتآكلًا وتكسرًا في الكتب، نتيجة ظروف التخزين القاسية، فالكثير من الكتب كانت محترقة جزئيًا، وبعضها احترق بالكامل ولم يكن بالإمكان استرجاعه".
يعلق الحمداني بارتياح، "بدأت بالفعل تدريبات في مجالات الفهرسة، وتقنية المعلومات، وصيانة المصادر".
ويكمل، "كان من الجميل أنّ موظفينا، وبعد استلام الأجهزة الخاصة بوحدة الصيانة، بدأوا العمل فورًا، وأبدعوا في صيانة الكتب والمخطوطات، واليوم، لدينا فريق متخصص في عمليات الترميم، يعمل باحترافية عالية".
ويوضح مدير مركز الفضل الأستاذ ليث لطفي، "قمنا بإيفاد ملاكاتنا للموصل، وتولّينا تدريب فريق مكتبة الموصل ومراقبة عملهم بشكل مباشر".
مضيفًا، "استضفنا فريق مكتبة الموصل لمدة خمسة أيام ضمن تجربة معايشة داخل المركز، خُصّص اليوم الأول لمحاضرة نظرية شاملة، وفي اليوم الثاني باشرنا بالتدريب العملي".