
من قصص مراكز إرشاد التائهين
يكاد قلبه يصل حنجرته وهو يتفحّص وجوه الأطفال المارة بين حشود الزائرين، مهرولا في مختلف الاتجاهات دون قصد محدد بعيون جاحظة، ووجه يعكس مدى الرعب الذي اجتاح مشاعره، خائفا من فقدان ابنته ذات السنوات الست.
كانت الدقائق تمر كأنّها سنوات على السيد فاضل، فيما يحاول أن يكتم صرخات حزنه المشوبة بالألم، بعد أن لجأ إلى أحد مراكز إرشاد التائهين أملًا في مساعدته بالعثور على ابنته المفقودة.
فالسيد فاضل الذي أعياه المسير ليلًا من مدينة النجف الأشرف إلى كربلاء المقدسة، اختار أن يغفو بضع دقائق ليأخذ قسطًا من الراحة، تاركًا طفلته زهراء تلهو بجانبه ريثما يستريح.
إلا أنّ الطفلة دون إدراك أخذت تتحرك خارج الخيمة التي كانت تأويهما، لتأخذها حشود السائرين بعيدًا عن والدها.
ومع سماع السيد فاضل صوت المنادي على جهاز الاتصال اللاسلكي التابع لمركز ارشاد التائهين وهو يصف ملامح ابنته وشكل ملابسها، حتى عادت الروح إلى جسده، وبات يتنفس الصعداء، إلّا أنّه كان يفتقد الاطمئنان حتى تعود إلى أحضانه.
لحظة اللقاء
كاد قلب فاضل أن يتوقف وهو يرى السيد ماهر خالد يحمل ابنته زهراء بين ذراعيه وعيونها مملوءة بالدموع، تلك الدموع التي اختلطت بمشاعر الفرح أيضا بعد أن لمّ الشمل بينهما مجددا.
والسيد ماهر هو مسؤول شعبة العلاقات الجامعية والمدرسية في قسم العلاقات العامة التابع للعتبة العباسية المقدسة، وهو عضو لجنة الاشراف على مراكز إرشاد التائهين التابعة للعتبة العباسية المقدسة المنتشرة على محاور مدينة كربلاء المقدسة مع بدء الأيام الأولى لموسم زيارة الأربعين الخالدة.
إذ يقصد المدينة ملايين الزوار للمشاركة في إحياء ذكرى مرور أربعين يومًا على استشهاد الإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس وأهل بيتهما في معركة الطف الشهيرة، وافدين من داخل العراق وخارجه.
يقول السيد فاضل: "بينما كنت في حيرة من أمري اقترب مني أحد المنتسبين العاملين وأرشدني إلى مركز إرشاد التائهين بعد أن لَفَتَته حالتي المزرية، وسرعان ما اقتادني إلى أقرب مركز ارشاد، الذي أبدى جدية ملحوظة واهتمام عاجل".
ويضيف، "ما أن وصلتُ المركز حتى عمم أحد المنتسبين نداءً على مختلف المراكز الإرشادية الأخرى، لنتلقّى بعد ثوان نداء العثور على طفلتي الحبيبة".
بدوره يعلّق السيد ماهر خالد مبتسما، "هذه الحالة هي إحدى عشرات الحالات الشبيهة التي تقع في زيارة الأربعين من كلّ عام".
مضيفا، "في كلّ حالة لا تمر فترة طويلة حتى نعيد المفقود إلى ذويه".
مشيرا، "لا يقتصر الأمر على الأطفال، ففي حالات كثيرة يلجأ إلينا بعض الزائرين الذين يفقدون الراشدين أيضا، كفقدان الزوجة لزوجها أو الرجل لأمّه، والعكس وارد أيضا".
عشرات المراكز
وأنشأت الأمانة العامة للعتبة العباسية المقدسة أكثر من اثنين وأربعين مركزا لإرشاد التائهين ابتداءً من زيارة الأربعين عام 2009 م وهذه المراكز تعمل بقاعدة بيانات موحدة مع العتبة الحسينية المقدسة ومن مركز سيطرة مشترك للتائهين.
وتستقبل المراكز يوميًا عددًا كبيرًا من الحالات المشابهة، بعضها لأطفال فُقدوا وسط الزحام، وبعضها لكبار في السن يعانون من أمراض الذاكرة، أو لنساء افترقن عن عائلاتهن في أثناء السير، وكلّ حالة تتطلب تعاملًا خاصًّا".
واختِير أن تكون الرقعة الجغرافية لانتشار هذه المراكز في مركز مدينة كربلاء المقدسة ومحاورالطرق الخارجية باتجاه مدينة النّجف الأشرف ومدينة الحلة ومحور خاص بطريق العاصمة بغداد.
فضلًا عن ذلك أسست العتبة المقدسة فرقًا جوّالةً تواصل تقديم خدماتها لزائري الأربعين في البحث عن التائهين وإرشادهم وتسليمهم لذويهم.
ويشترك قِسما العلاقات العامة والاتصالات وأمن المعلومات العائدان إلى الأمانة العامة للعتبة العباسية المقدسة في أداء مهام تلك المراكز الإرشادية بالتعاون مع مجموعة من المتطوعين، فيما يتولى مركز التطبيقات البرمجية الإسلامية في قسم الشؤون الفكرية والثقافية إدارة الجانب الرقمي من تطبيق يرشد التائهين وذويهم، عبر هذه المراكز.
وتواصل مراكز إرشاد التائهين التابعة للعتبة العبّاسية المقدّسة، في كلّ عام تقديم خدماتها الإرشادية للزائرين في زيارة الأربعين، وكانت بداياتها عام 2009 م.
إذ يبيّن المهندس فراس عباس حمزة، رئيس قسم الاتصالات وأمن المعلومات، أنّ مراكز إرشاد التائهين مزوّدة بشبكة بيانات متكاملة مرتبطة بالسيطرة المركزية للتائهين المشتركة بين للعتبتين المقدستين الحسينية والعباسية.
قائلًا، "جرى تنصيب شبكات الحاسبات وبرمجيات قواعد البيانات، وتفعيل الأجهزة اللاسلكية وهواتف شركة (الكفيل أمنية) المجانية، مع الاعتماد على برمجيات قواعد البيانات من العتبة الحسينية المقدسة لضمان استجابةٍ سريعة وفاعلة في أيام الزيارة، فضلًا عن تسهيل التواصل مع مراكز الإرشاد لتقديم أعلى مستويات الكفاءة والفاعلية".
مضيفًا، "المراكز تستمر بعملها على مدار الساعة، لإعادة التائهين إلى عائلاتهم، سواء في أثناء زيارة الأربعين أو بعدها".
ويستمر عمل تلك المراكز ابتداءً بالعاشر من صفر، وتواصل جهودها حتى بعد انتهاء الزيارة.
يشير رئيس قسم الاتصالات إلى أنّ "هناك حالات لأطفال تائهين لم يتمّ التعرف على ذويهم، فيجرى التحفظ عليهم في مراكز الإيواء حتى الوصول إلى عائلاتهم".
مئات العاملين
وينضمّ إلى هذا الجهد الإنساني نحو (300–350) منتسبًا ومتطوعًا، موزعين على المناطق والمحاور التالية: محور النجف الأشرف، حتى نقطة عمود (721)، ومحور الحلة حتى سيطرة أم الهوى، ومحور بغداد حتى منطقة المسيب، ومركز المدينة يشمل مناطق المقام، وباب بغداد، وباب القبلة، وشارع الجمهورية، والمحافظة، شارع الشهداء، شارع السدرة، ساحة وشوارع بين الحرمين، بالإضافة إلى بقية أحياء كربلاء المقدسة.
وبحسب رئيس قسم الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، فإنّ هناك تنسيق مع قيادة شرطة محافظة بغداد لتوسيع نطاق عمل المراكز، ليبدأ من قضاء المحمودية جنوبي العاصمة بغداد، إذ تتولى الشرطة نشر المراكز هناك، بينما تقدم العتبة العباسية المقدسة الدعم اللوجستي والفني من أجهزة ومستلزمات.
آلية العمل
من جهته يوضح حسين نعيم عضو لجنة مراكز إرشاد التائهين، أنّ "آلية التعامل مع حالات الفقدان تبدأ بتسجيل البلاغ ضمن نظام إلكتروني موحد، يساهم فيه تطبيق حقيبة المؤمن للهواتف النقالة، أو بشكل مباشر عبر نداءات اللاسلكي والاتصال الهاتفي، يتم تعميمه على جميع المراكز المنتشرة في كربلاء المقدسة فورًا، مما يسرّع من عملية البحث والاستجابة".
وبيّن، "جميع هذه المراكز تديرها سيطرة مركزية داخل مركز المدينة، وتتولى تنسيق النداءات وتنظيم العمل بين النقاط المختلفة، مشيرًا إلى وجود (جوال) مخصص لنقل الحالات من نقطة إلى أخرى بحسب الحاجة".
ويضيف، "المراكز تتعامل مع نوعين من الحالات:
الأولى: التائه: وهو من يصل بنفسه إلى أحد المراكز فيُسجل ضمن قاعدة البيانات بانتظار التعرّف عليه من قبل ذويه.
والأخرى: المفقود، وهو من يُبلّغ ذويه عن فقدانه، إذ تُجمع المعلومات المتعلقة به ويتم التواصل معهم فور العثور عليه".
ويشير عضو اللجنة إلى أنّ "مراكز الإرشاد تعتمد على أجهزة لاسلكية وقاعدة بيانات مشتركة بين العتبتين الحسينية والعباسية المقدستين، ما يسهم بشكل كبير في تسهيل عمليات البحث والتوثيق وتقديم الخدمة بأعلى درجات الدقة والتنظيم".