
عشر سنوات خلت والشيخ ضياء الدين الزبيدي يعكف بحرص شديد على أن ترى نسخة المصحف العراقي النور.
والزبيدي الذي يحظى بخبرة عملية في هذا المجال، سيما إنه متخصص في علوم القرآن وتولى عدة مهام في هذا السياق، يتولى مسؤولية مركز طباعة المصحف الشريف في العتبة العباسية المقدسة.
وكما يروي فإن "المتولي الشرعي للعتبة المقدسة سماحة السيد أحمد الصافي كان أشد الداعمين لفكرة طباعة مصحف عراقي بطريقة خاصة".
إذ تسعى الأمانة العامة للعتبة المقدسة إلى طباعة نسخة من المصحف الشريف وفق معايير لا تختلف كثيراً عن نسخ القرآن المتداولة سوى بلمسة عراقية خالصة.
وجاءت هذه الرغبة من كون معظم نسخ المصحف المتداولة في العراق ومعظم البلدان الإسلامية تعود إلى "مصحف المدينة" المطبوع عام 1984 في مجمع الملك فهد في المدينة المنورة.
وبحسب الشيخ الزبيدي، فإن الخطاط السوري عثمان طه الحلبي، اعتمد على مصحف الشيخ المصري محمد بن علي الحسيني، الذي طبع في مدينة القاهرة عام 1924، أما تسطيره فقد اعتمد بذلك على ما سطره الخطاط التركي عثمان قايش زادة.
وبحسب معظم المختصين في علوم القرآن الكريم فإن نسخ المصحف الحالية مأخوذة روائياً عن حفص عن عاصم، وهما أقدم شخصيتين نقلتا القرآن الكريم بوضعه الحالي.
وأسست العتبة المقدسة مركز طباعة المصحف الشريف عام 2014، وباشرت إدارته بضم عدد من المختصين في علوم القرآن، خصوصاً على صعيد الخط والضبط والرسم والتصميم والتنضيد والطباعة.
ويكشف الزبيدي إنه "جرى طباعة أول نسخة من المصحف الشريف في العتبة العباسية المقدسة في العام نفسه على مستوى التدقيق التجريبي بعدد لا يتجاوز 350 نسخة غير خاضعة للتداول بحجم الوزيري".
لتتوالى بعد ذلك عدة طبعات للمصحف الشريف بالحجم الرحلي الملون والمذهب في السنوات المتتالية 2016-2017-2018-2019، لتتعدد بعد ذلك نسخ المصحف الشريف التي جرى طباعتها.
ويولي المركز ضمن أبرز اهتماماته حيازة نسخ المصاحف التاريخية النادرة، إذ تمكن مؤخّرًا من الحصول على نسخة الكترونية طبق الأصل لأقدم مصحف معروف خط عام 413 هجرية، من مكتبة جستربتي في أيرلندا، وهو المسمى بمصحف ابن البواب المتوفي.
وبحسب الزبيدي فإن المجمع حريص على مد جسور التعاون والتبادل الثقافي مع المراكز الدولية المتخصصة في المصحف الشريف.
مواصفات المصحف العراقي
يشير الشيخ ضياء الدين الزبيدي إلى أن العراق سبق له أن بادر إلى طباعة نسخة من المصحف الشريف عام 1950م، وهي نسخة تعود للخطاط التركي محمد أمين الرشدي، وأعيد طبعها في عام 1960، وعام 1970 في المانيا، وهي طبعة فاخرة.
ويرى الزبيدي إن ما يميز المصحف العراقي الذي تبنّت العتبة المقدسة طباعته، هو من إعداد وتصميم مركز طباعة المصحف الشريف، مستفيدين بذلك من حرف الخطاط العراقي حميد السعدي، إلى جانب مراعاة إن لا يكون اسم السورة في صفحة وبداية السورة في صفحة أخرى.
ويقول، "تمت مراعاة تطابق رسمه وضبطه ونقطه مع أشهر المصاحف المعروفة برواية حفص عن عاصم، إلى جانب الالتزام بعدد صفحات نسخ المصحف المتداول حالياً".
لافتاً إلى إن "مجمع الملك فهد لطباعة المصحف تبنى التغييرات التي أجراها مركز طباعة المصحف الشريف في العتبة العباسية المقدسة في طباعة نسخها الجديدة من المصحف".
طباعة بالغة الحساسية
بدوره يبين مدير دار مطبعة الكفيل الأستاذ فراس الإبراهيمي إن عملية طباعة المصحف جرت وسط ظروف خاصة جداً نظراً لما يصفه "بحساسية المهمة".
ويقول الإبراهيمي، "روعي خلال عملية الطباعة عدة معايير استثنائية، تقف في طليعتها أن تكون جميع مكونات المصحف من المواد المجازة شرعياً وتتمتع بوقاية بيئية عالية".
ويضيف، "جرى استيراد الورق من إندونيسيا إذ اختير أجود أنواع الأوراق عالمياً، في حين استوردت الصمغ من دول إسلامية محددة".
وتعد مادة الصمغ الرائجة في الأسواق المحلية والدولية غير صالحة في الدخول بعملية طباعة المصحف الشريف كون مصدرها من الحيوانات النافقة بحسب المختصين.
يشير مسؤول المطبعة إلى، أن "استيراد مادة الصمغ كان حصراً من دول إسلامية لتجنب نوعية الصمغ الأخرى التي لا يجوز شرعاً استخدامها في طباعة المصحف الشريف".
وعمدت مطبعة الكفيل إلى استيراد الجلود الخاصة بتغليف نسخ المصحف من دولة إيطاليا بعد اخضاع مصدرها لمعايير تتوافق مع الأذونات الشرعية وضوابط مشددة.
وتتميز الجلود الإيطالية التي تستخدم في صناعة أغلفة نسخ المصحف العراقي بكونها لا تتحلل بمرور الوقت وتحافظ على نضارتها إلى جانب عدم تسببها بأي حساسية لدى ملامستها. بحسب الإبراهيمي.
مصحف الأعشار
في السياق ذاته أصدر المركز عدة أنواع من نسخ المصحف الشريف وحسب طبيعة استخدامها وبعدة أحجام ومنها الوزيري والرحلي والرقعي والحجم الجوامعي.
ومن تلك المصاحف جاء مصحف الأعشار الذي يصفه الزبيدي بأنه "ثمرة مسابقة جائزة الثقلين التي أطلقها المجمع العلمي في العتبة العباسية المقدسة".
ويضيف، "شهدت المسابقة مشاركة (47) خطّاطًا عراقياً تم اختيار عشرةٍ منهم، ليكتب كلّ خطاطٍ ثلاثة أجزاء من القرآن الكريم، بخطّ النسخ وهو الخطّ المستخدم في خط القرآن الكريم".
موضحاً، "المصحف جاء بنسختين، الأولى كما وضعها الخطاطون العشرة المشاركون في المسابقة بعد كتابة كلّ منهم ثلاثة أجزاء من القرآن الكريم، أمّا النسخة الثانية فقد وُضِعت عليها الزخارف ورُقِّمت آياتها وعُدِّلت صفحاتها بما يناسب الحُلّة البهية للقرآن الكريم".
وأسوة بنسخ المصحف الشريف السابقة تولت مطبعة دار الكفيل للطباعة والنشر بطباعة مصحف الأعشار وتميز بورقٍ ذي نوعيّةٍ جيّدة وطِباعةٍ فاخرة وبالحجم الرحلي.
مصحف التجويد
وسبق للمركز أن تبنى إعداد وطباعة مصحف خاص أطلق عليه تسمية (مصحف التجويد) بالحجم الوزيري، وطبع في مطبعة دار الكفيل عام 2018.
إذ تميّز بالعلامات والإشارات ذات الألوان الخاصّة بعلم التجويد المعروفة، وبخطٍّ واضح امتاز بحركاتٍ واضحة وسهلة ومفيدة جدّاً لمن أراد أن يتعلّم فنّ القراءة والتجويد بشكلٍ صحيح ومتقن.
المجمع العلمي للقرآن الكريم
المجمع العلمي للقرآن الكريم هو أحد أقسام الأمانة العامة للعتبة العباسية ويشرف على عمل مركز وعلوم القرآن وله العديد من النشاطات الخاصة بنشر وتحفيظ القرآن الكريم وترتيله.
ويعزو الدكتور مشتاق العلي رئيس القسم تنامي الاهتمام بالمصحف الشريف وعلومه إلى حرص العتبة المقدسة في خلق جيل متحصن فكرياً وعقائدياً وعلمياً.
ويقول إلى جانب أعمال طباعة المصحف الشريف تبنى القسم العديد من المشاريع الفكرية والثقافية في عموم العراق وبعض البلدان الإقليمية.
مشيراً، "تمكن القسم من تخريج العديد من القرّاء الذين حازوا جوائز دولية".
وأطلق المركز منذ تأسيسه المئات من الدورات التدريبية في مختلف الفئات العمرية والجنسية، ولعل أحد أبرز منجزاته تتمثل بعقد أول ختمة إسلامية للقرآن الكريم أدّاها طلبة العلوم الدينية بمشاركة أكثر من خمسين ألف طفل.
أصداء وآراء تجمع على الإنجاز
فيما كان لنسخة المصحف الشريف التي أصدرتها العتبة المقدسة والمعروفة بمصحف التجويد دور أساسي خدم القراء بشكل كبير. بحسب القارئ والمؤذن في العتبة الحسينية المقدسة الحاج عادل الوزني.
ويبدي الوزني مشاعر الفخر والسرور بما وصفه "مصحف بأيادٍ عراقية تظهر الطاقات والإمكانيات العراقية في الخط والطباعة والرسم والزخرفة".
مشيراً، "مبادرة القائمين على إدارة العتبات المقدسة جاءت بما يتناسب مع منزلة وعظمة القرآن الكريم والاهتمام به، إلى جانب كونها مبادرة على الصعيد الوطني العراقي".
موضحا، "جاءت عملية طباعة المصحف الشريف العراقي عقب أكثر من سبعين عاماً مرت على المحاولة الأولى".
ويتابع الوزني، "الحمد لله اليوم نقف عند هذا المنجز من قبل إدارة العتبة العباسية المقدسة فكتاب الله وعترة النبي الأكرم هما وصية النبي محمد صلى الله عليه وآله، كون المصحف عراقياً هي ضرورة لابد منها، كي تكون بصمة عراقية تتناسب وكون العراق يضم الكثير من مراقد العترة الطاهرة".
ويعلق القارئ عادل الوزني مختتماً، "نتمنى أن نشارك الأخوة في العتبة العباسية المقدسة في انجاز هذا المشروع المبارك والاستفادة منا ومن ملاحظاتنا كوننا أصحاب اختصاص".
بدوره ثمن القارئ محمد رضا الصراف ما وصفه، "هذا الإنجاز الرائع يمثل خطوة فريدة من نوعها على صعيد الوطن".
مبيناً، "هذا العمل المبارك مدعاة فخر واعتزاز".
في حين يقول القارئ فاضل الصفار الكربلائي، "سنين كثر ونحن بصفتنا قراء للقرآن الكريم ننتظر هذا الخبر الذي كان له أثر كبير وبالغ على المستوى الشخصي".
مؤكداً، "الإنجاز الذي أشرفت عليه العتبة العباسية المقدسة سوف يكون له أثر كبير على المستوى الإسلامي كونه أنجز بجهود خدمة الإمام العباس عليه السلام".
مشيراً، "ما يتميز به المصحف العراقي هو من مراعاته لأدق التفاصيل من حيث القواعد ونوع الخط ورسمه ودقة تصميمه".