image alt

مجالس العزاء النسوية... إرث زينبي تتناقله العراقيات

مجالس العزاء النسوية... إرث زينبي تتناقله العراقيات

في بيت بسيط في مدينة النجف الأشرف، تجلس "أم عباس" على سجادة صغيرة، تقرأ من كتاب قديم خطّته يدها قبل ثلاثين عامًا، وأَمَامَها، تصطف نساء من مختلف الأعمار، جميعهن متشحات بالسواد.

وما إن استهلّت أم عباس ذكر مصيبة الحسين -عليه السلام- أجهشت معظم النساء بالبكاء.

هنا، في هذا المجلس النسائي، الصوت الذي يعلو هو صوت الوجدان، والحكاية، والدمعة.

طالما كانت المجالس الحسينية النسائية في العراق، خصوصًا في شهري المحرم الحرام وصفر الخير، مساحة مقدسة للنساء، يعبّرنَ فيها عن حزنهن بحرية نادرة، لا تُتاح في باقي أيام السنة.

إذ تضجّ معظم المدن العراقية بالمجالس الحسينية النسوية أسوة بنظيراتها الرجالية في هذين الشهرين بتقليد عريق يعود إلى زمن وقوع معركة الطف الخالدة في مدينة كربلاء المقدسة عام 61 للهجرة.

في هذه المجالس، تُروى وقائع من معركة كربلاء، تستحضر البطولات والتضحيات والمواقف والمعاناة، وتنعى النسوة بنياحٍ عراقيٍّ شجيٍّ لحظة نكوس الإمام الحسين -عليه السلام- عن جواده.

تقول إحداهنّ: "في المجلس أشعر وكأنّ السيدة زينب -عليها السلام- تجلس إلى جواري، تخبرني أنني لست وحدي".

وتضيف، "كلّ همومي تتقزّم أمام مصيبة كربلاء، فأخرج من المجلس وقد خفّ حزني، وأنا قوية، كأنّ دموعي على الإمام الحسين -عليه السلام- شفاء من كلّ داء".

تقول أخرى وهي تسحب طفلتها إلى حضنها: "أحضر المجلس لأجلها، كي تعرف من هو الإمام الحسين – عليه السلام-، ولتحبّ زينب -عليها السلام-، وتتعلّم أنّ المرأة ليست فقط عاطفة، بل ثبات، وشهادة، وكرامة."

هناك من تحضر المجلس وفي قلبها دعاء، ورجاء، وألم دفين، لكنّها لا تطلب شيئًا... فقط تقول: يا أبا عبد الله".

كم من امرأة حضرت أول مجلس في طفولتها، وهي ممسكة بطرف عباءة أمّها، لا تدري لماذا تبكي النساء، لكنّها تشعر بالخشوع والرهبة، ثم تكبر، ويكبر معها حبّ الإمام الحسين، فيصبح حضور المجلس طقسًا روحيًا، كأنّه موسم لقاء لا يُؤجّل.

في المجالس، هناك نساء يُصبن بالخجل من البكاء في العلن، ثم لا يملكن أنفسهن حين يُذكر عليٌّ الأكبر أو عبد الله الرضيع -عليهما السلام-.

وهناك من تُخفي آهاتها بين طيات العباءة، لكنها تنهار حين تذكر خطبة السيدة زينب في مجلس يزيد، وكأنّها ليست مستمعة، بل شاهدة، أو أخت تبكي أخاها.

تقول إحدى النادبات في المجلس: "المجلس ليس مجرد نواح وكلمات تُلقى، بل هو لقاء مع النفس، في العتمة التي تُطفأ فيها الأنوار، حين يُقرأ "أين المنادي بقتيل العَبرة"، تذوب الحدود كلّها، تصبح الغنيّة والفقيرة سواء، والكبيرة والصغيرة، جميعهن يندبن الأمام الحسين عليه السلام.

موروث تاريخي

تشير الحاجّة أمّ قاسم، "عندما علت صرخات نساء بني هاشم في كلّ ركن من أركان طفّ كربلاء بعد مقتل أبي الأحرار -عليه السلام-، تلك كانت أول لبنة للمجالس الحسينية النسائية".

وتسترسل قائلةً: "كانت زينب -عليها السلام- أوّل من نعت أخاها أبا عبد الله -عليه السلام-، في مواضع عِدّة، برحلة السبي المؤلم".

وتتابع، "كان نعي زينب لشهداء كربلاء -عليهم السلام- إلقاءَ حجّةٍ على الأمّة، وإظهارًا للحقيقة التي حاول الطغاة طمسها، وإحياءً لدين جدّها محمد -صلّى الله عليه وآله-".

وتُبيّن، "منذ ذلك الوقت وحتى الآن تتواصل النساء الزينبيات في إحياء وإقامة الشعائر الحسينية من دون توقف".

وترى أم قاسم أنّ مجالس العزاء النسوية باتت توازي المجالس الرجالية من حضور وإمكانية الخطابة لدى الخطيبات الحسينيات على صعيد قراءة الرثاء، والمشاركة الوجدانية في المجلس الحسيني".

مؤكدة، "المجالس الحسينية النسوية تبرز فيها النسوة بمواهب عديدة، فمنهنّ مُلهمات، وراويات، ومبلغات، في طريق الوعي والبصيرة، لتربية أجيال تستلهم الولاء والنهج المحمدي الأصيل".

المجالس النسوية في العهد الصدامي

وبحسب رأي بعض المؤرخين فإن المجالس الحسينية النسوية استمرت طيلة العصر الأموي والعصر العباسي والاحتلال العثماني، وحتى عصرنا الحاضر.

إلا إنّ فترة العهد البعثي كانت من أكثر الفترات القمعية التي واجهت إحياء الشعائر الحسينية على مدى التاريخ، فقد حُظِرَت فيها المجالس الحسينية للرجال والنساء على حد سواء.

ويقول الدكتور السيد جاسم الجزائري مدير حوزة بقية الله الأعظم في طبيعة المجالس الحسينية النسائية إبّان عهد المقبور: "كانت المجالس الحسينية لا سيما النسائية منها تمثّل تحديًّا صامتًا بوجه القمع والرقابة، وتجسيدًا خفيًّا للولاء لأهل البيت -عليهم السلام- في ظلّ نظام يسعى لطمس كلّ ما يمتّ بصلةٍ لهوية التشيّع الثقافية والدينية".

مبيّنًا، "منذ استلام حزب البعث السلطة في العراق عام 1968، وخصوصًا بعد صعود صدام حسين للسلطة عام 1979، بدأت مرحلة ممنهجة من التضييق على الطقوس والشعائر الدينية الشيعية، بِعَدِّها تهديدًا أيديولوجيًا وسياسيًا لنظامه البعثي القمعي".

ويضيف، "تم حظر إقامة الشعائر الحسينية في عموم العراق، ومراقبة المساجد، ومطاردة من يقيمون المجالس، بل وصل الأمر إلى السجن والإعدام بتهمة "التحريض الطائفي".

ويشير مدير الحوزة، "رغم الحصار، لم ينقطع ذِكر الامام الحسين-عليه السلام- عن بيوت العراقيين، إذ كانت الأمهات يُعلّمن بناتهن أنّ الامام الحسين ليس مجرد ذكرى، بل هو هوية، وأنّ المجلس الحسيني النسائي هو مدرسة للبصيرة، لا للعزاء فقط".

وتروي السيدة أم حسين كيف كانت تقيم مجلسًا حسينيًّا سنويًّا، خِلسةً بعيدا عن مسامع أزلام البعث وجلاوزته، كما تصفهم، فتقول: "كانت الدعوات سرية تُوَجّه لبعض النسوة الموثوق فيهنّ، وجلّهن من الأقارب والصديقات".

وتضيف، "كنّا نحرص على أن تَفِدَ المشاركات في المجلس بشكل منفرد؛ كي لا يلفتنَ النظر، ونعقد المجلس في سرداب البيت، بأصواتٍ خافتة وآهاتٍ مكبوتة".

وتختتم، "الظلم لا يدوم، ونحمد الله، فإنّنا نستطيع في هذا الوقت إحياء الشعائر الحسينية بحرية".